حلقة ثانية

هذا الذي يجري في العراق - 1
أكاد أجزم أن ما يدور ويجري في العراق وعلى العراق من صراع عنيف، دموي مذهل، يتصل بأسباب وعوامل خارجية أكثر من كونها داخلية، فهناك صراع دول، بل هو صراع عالمي على هذا البلد المنكوب، وليس هناك مزيد من فائدة في التدليل على هذه الحقيقة لوضوحها البادي لكل عيان، فلم نزد شيئا إذا قلنا أن هناك صراعا أمريكيا بريطانيا روسيا فرنسيا إيطاليا إيرانيا تركيا سوريا خليجيا على العراق، بل هو صراع يمتد إلى أقصى اوربا وأقصى أسيا وأقصى افريقيا، وسوف افصل بذلك مستقبلا، بل هو صراع داخل كل دولة بحد ذاتها، هناك صراع أمريكي /أمريكي على العراق، وهناك صراع بريطاني / بريطاني، وهناك صراع فرنسي / فرنسي، وهكذا حتى في بعض الدول الاقليمية التي تحيط بهذا العراق المبتلى.
الصراع الداخلي العراقي البحت موجود، وله أسبابه التي سنمر عليها في حلقة خاصة، ولكن هذه الاسباب تتغذى على زاد مستورد أيضا، هذا الزاد يشحنها بالقوة، يشحنها بكل مبررات الاستمرار، ذلك الزاد المستورد هو صراع العالم على العراق، صراع الدول الكبرى والدول الاقليمية. ولكن لو لم تكن الأرضية الداخلية مهيئة لهذا الصراع المرير لما وجد هذا الزاد السام معدة تستسيغه.
في خضم هذه المعادلة المتوترة المعقدة جاءت بعض قرارات ومواقف وتصورات وممارسات بعض صناع القرار السياسي في العراق من أحزاب وجمعيات ورجال دين وزعماء عشائر لتصب مزيدا من الزيت على النار !
هنا أريد أن أذكر بعض هذه القرارات أو المواقف أو التصورات أو الافكار، كأمتداد لما ذكرته في الحلقة السابقة على أمل المواصلة مستقبلا.
أولا: الدستور، فقد جاء نسخة بدائية مثيرة للكثير من المشاكل، فهناك خلاف حاد بين طوائف وقوميات وإثنيات العراق حول الكثير من مواد الدستور، مثل مشروع الفيدراليات وتوزيع الثروة النفطية، وشكل الحكم، وغيرها، فضلا عن الصياغة الركيكة للدستور، مضافا إلى كل ذلك التناقضات الفاضحة بين بعض بنوده، والعلاجات التوفيقية الفاشلة بين مصادر التشريع، خاصة فيما يتعلق بموضوعي الإسلام والديمقراطية.
ثانيا: قانون إجتثاث البعث،فقد كان بسبب صياغته وحيثياته المضطربة من أسباب ومحفزات وعوامل هذا الوضع المتفجر، لقد تفاعل ذلك مع أسباب الصراع الداخلية أصلا، وأسبابه الخارجية. لقد أفتقد المشروع إلى الموضوعية الدقيقة، وكان سببا في مظالم وتناقضات ومفارقات كثيرة.
ثالثا: مشروع الفيدرالية، خاصة فيدرالية الوسط والجنوب معا التي اقترحها عبد العزيز الحكيم، فيما لا خلاف على فيدرالية الشمال، وربما هناك شبه توافق على الفيدراليات الثلاثية، كما سنواصل الحديث عن ذلك إن شاء الله.
رابعا: تحكيم مبدا المحاصصة الطائفية في تشكيل الوزارة، وقبلها المحاصصة الطائفية في البرلمان.
خامسا: الانتخابات النيابة وفق قانون الكتل.
سادسا: غياب المركزية، أي مركزية الحكومة، وإناطة كل أو معظم ما يهم المحافظات ويتصل بإدارتها إلى أجتهاد المحافظ وبطانته وأقربائه وأعضاء حزبه، الأمر الذي كثيرا ما تسبب في قتال دموي مروع.
سابعا: أهمال المراقبة على وسائل الاعلام، وا لتساهل مع الفضائيات المعادية والمغرضة التي كانت وما زالت تمارس عملا تحريضيا وتخريبيا في العراق.
ثامنا: ضعف الاعلام العراقي الرسمي، بل مساهمة الفضائية العراقية با لذات عن قصد أو غير قصد بتحفيز النواز ع الطائفية، خاصة في شهري رمضان ومحرم الحرام، بل إن مشروع الأذان بصيغتيه يعد من أسباب الاحتقان الطائفي.
تاسعا: ظهور الرموز الدينية في الفضائية العراقية والحديث عن مناسبات دينية ليست محل اتفاق بين المسملين.
عاشرا: ضعف مستشاري رئيس الوزراء الحالي والسابقين عليه، وعدم توظيف الكفاءات والخبرات، والإستهانة إلى حد ما بغير الحزبيين، ومن ثم، أن يكون مجلس رئيس الوزراء من لون واحد يعد خطا كبيرا، فيما الو اجب أن يكون متنوعا، أي من كل الاتجاهات والاديان والطوائف والقوميا ت.
احدى عشر: إنعدام قانون الرجل المناسب في المكان المناسب.
اثنى عشر: سيطرة الحزبية والاحزاب على مقاليد المحافظات والوزرات والدوائر المهمة في الدولة.
ثالث عشر: ظاهرة توظيف الاقارب والأصدقاء ومن ذات المحافظة على حساب الكفاءة وا لخبرة، حتى في البرلمان، بل حتى في مكتب رئيس الوزراء !!!!!!!!!!!!!
رابع عشر: غياب المركزية، أي مركزية الحكومة على المحافظات.
خامس عشر: ظاهرة التسيب المخيف في البرلمان.
سادس عشر: فقدان العقاب الصا ر م وتأخير العقوبات المستحقة بحق المجرمين والقتلة والمخربين والارهابيين ربما لشهور، بل سنين.
هذه بعض المواقف والقرارا ت والتصورات والافكار التي زادت من سعار المشكلة، و صعدت من آوارها المشتعل أصلا كما هو معلوم، يضاف إليها عصابات الجريمة المنظمة، والفساد الاداري والمالي، والاختلاسات التي قام بها رجال كبار في الدولة، وظهور المافيات العائلية في الوزارات والدوائر، وغيرها من المقتربات الاخرى.
لقد ارتكب هؤلاء أخطاء كبيرة في مواقفهم وفلسفتهم السياسية، لم يقرآوا معادلات الصراع الكبرى في العراق وعلى العراق.
وهنا لابد لنا أن نضيف نقطة في غاية الأهمية، إذ لا ينبغي أن نسى دور بول بريمر بتعقيد المشهد بشكل مثير، فهو الذي أصر على حل الجيش العراقي، وساهم مساهمة خطيرة في تأصيل المحاصصة الطائفية، ويقال كان يصر على ترك الحدود مفتوحة، وغيرها من المواقف الاخرى التي كان لها تأثير مباشر على توتير الوضع وتأزيمه.
هذا الوضع المأساوي لا ينقذه مشروع مصالحة وطنية، ولا مشروع إعادة الجيش العراقي السابق، ولا مشروع إلغاء قانون الاجتثاث، ولا مشروع تعديل الدستور، ولا تغليب طائفة على غيرها، ولا مؤتمر إقليمي، ولا مؤتمر دولي، بل كل هذه الأمور مجتمعة، نحن في حاجة إلى كل العالم لحل المشكل العرا قي، وفي حاجة لاعادة النظر في كل ما تسبب ويتسبب في تعقيد الحالة، وفي حاجة للضمير الحي اليقظ، وفي حاجة إلى الحكومة القوية، وفي حاجة لأشياء أخرى كثيرة وكثيرة.
وفي الحلقة المقبلة نواصل الحديث