لدى التمعن بما أقدمت عليه quot;حماسquot; في غزة، لا يمكن ألاّ التفكير بأن الحركة التي فازت عن حقّ في الأنتخابات التشريعية الأخيرة التي سمح بها أتفاق أوسلو، تحت خيمة السلطة الوطنية الفلسطينية، تجد نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما. يتمثّل الخيار الأول في تحويل غزة ألى quot;حماستانquot;، أي أمارة اسلامية على غرار ما كانت عليه افغانستان في عهد quot;طالبانquot;. ستشكل هذه الأمارة عندئذ، قاعدة لتحرير فلسطين من البحر ألى النهر ومن النهر ألى البحر، أنطلاقاً مما تعد به quot;حماسquot; جمهورها. هذا الجمهور الذي تحاول أقناعه بأنّ أرض فلسطين quot;وقف أسلاميquot; وأن لا بدّ من استعادة الأرض كلّها، وهذا يعني أن ما لابدّ من استعادة القدس كلّها، الجانب الغربي منها قبل الجانب الشرقي. ولذلك قال الدكتور محمود الزهّار أحد قادة quot;حماسquot; ووزير الخارجية في حكومتها الأولى في أحدى مداخلاته التلفزيونية العام الماضي أن القدس الشرقية، العاصمة المفترضة للدولة الفلسطينية المستقلّة، لا تهمّه. ما يريده الدكتور الزهّار، الذي لم يجد من يستقبله في العواصم الأوروبية لدى توليه وزارة الخارجية، هو تحرير كلّ المدينة وكل أرض فلسطين! لا يمكن في هذه الحال، ألا تشجيع quot;حماسquot; على الأستمرار في التجربة التي تخوضها أنطلاقاً من غزوة غزة التي ستقودها من دون أدنى شك من أنتصار ألى أنتصار آخر يدفع ثمنه الشعب الفلسطيني وتدفع ثمنه القضية الفلسطينية.
أما الخيار الآخر أمام quot;حماسquot;، فأنه يتمثّل في العودة عن الخطأ والأعتراف بأن ما قامت به في غزّة، خصوصاً بعد شنّها غزوة غزّة، أكبر خدمة يمكن أن تقدّم ألى أسرائيل. هل تمتلك quot;حماسquot; الشجاعة الكافية للأقدام على مثل هذه الخطوة التي لا يقدم عليها سوى الأحرار، أم أن الموضوع أكبر منها بكثير وأنّه مرتبط أساساً بكونها أداة للمحور ألأيراني- السوري لا أكثر ولا أقل، تماماً كما الحال مع quot;حزب اللهquot; في لبنان أو أدوات الأدوات مثل النائب المحترم، بالأيجار طبعاً، الجنرال ميشال عون أو عصابة شاكر العبسي في مخيّم نهر البارد في شمال لبنان. من يضرب مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية، علماً بأنه ممثل فيها وجزء من الحكومة القائمة تحت مظلتها، لا يخدم سوى أسرائيل. ما الفارق بين تعاطي quot;حماسquot; مع السلطة الوطنية الفلسطينية الساعية ألى التخلص من الأحتلال الأسرائيلي وبين ما يقوم به quot;حزب اللهquot; الأيراني في لبنان الساعي بدوره ألى التخلص من الحكومة الشرعية التي تعمل من أجل أنقاذ لبنان من الأفخاخ التي تحاول أسرائيل أيقاعه بها؟ من خدم أسرائيل في لبنان أكثر من quot;حزب اللهquot; الذي أفتعل حرب الصيف الماضي من أجل تمكين الدولة اليهودية من تدمير جزء من البنية التحتية اللبنانية وتعطيل الحياة في البلد؟ من خدم أسرائيل أكثر من quot;حزب اللهquot; الذي أستكمل حرب أسرائيل على البنية التحتية وعلى الأقتصاد اللبناني بالأعتداء على الأملاك العامة والخاصة وسط بيروت لتأكيد أن لا أمان للمستثمر في لبنان وأن سلاح الحزب موجه ألى صدور اللبنانيين وأرزاقهم أوّلاً وأخيراً وقبل أي شيء آخر... وأن هذا هو الهدف الحقيقي من المحافظة على هذا السلاح الميليشوي؟
لا شكّ ان ما حصل في غزّة مؤلم. ما حصل أعاد القضية الفلسطينية عشرات السنوات ألى خلف. ما حصل كرّس القطيعة، ولو موقّتاً، بين غزة والضفة الغربية، علماً بأن ياسر عرفات، رحمه الله، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، حرص دائماً على الربط بين القطاع والضفة وربط موافقته على أتفاق أوسلو في العام 1993 من القرن الماضي بصيغة غزة وأريحا أوّلاً لتأكيد أن طموحات الشعب الفلسطيني لا تتوقف عند حدود غزة التي كانت في الجيب دائماً، خصوصاً أن اسرائيل كانت تسعى بأستمرار ألى التخلّص منها بأي طريقة من الطرق.
من فوائد ما حصل في غزّة أن السلطة الوطنية الفلسطينية تخلّصت من هذا العبء، عبء غزة، وأن quot;حماسquot; ارتكبت خطأ تاريخياً بأقدامها على ما أقدمت عليه بما في ذلك نهب منازل quot;أبو عمارquot; وأمير الشهداء quot;أبو جهادquot; وكل من له علاقة من قريب أو بعيد بالسلطة الوطنية والأجهزة الأمنية التابعة لها. وعلى رأس هؤلاء، يأتي بالطبع رئيس السلطة السيد محمود عباس (أبومازن) الرجل المسالم الذي قاوم بشراسة كل من حاول تأجيل موعد الأنتخابات التشريعية الفلسطينية التي فازت فيها quot;حماسquot; بما مكّنها في بداية العام 2006 من تشكيل حكومة هي الأولى التي تشكلها، بشكل مكشوف، حركة الأخوان المسلمين في العالم العربي منذ تأسيسها في العام 1928 من القرن الماضي. لتتحمّل quot;حماسquot; من الآن فصاعداً مسؤولية ما يحصل في غزة ومسؤولية الحصار المفروض على القطاع ومسؤولية أطعام الناس فيه وأيجاد فرص عمل لهم وتوفير حدّ أدنى من الخدمات للمواطنين... أم أن الحركة الأسلامية تعتقد أن الشعارات الحماسية كافية للقضاء على الفقر والبؤس والجوع والتخلف.
في المقابل، تترتب على السلطة الوطنية الفلسطينية ممثلة برئيسها بالذات، وquot;فتحquot;، مسؤوليات من نوع مختلف. ليس مطلوباً مواجهة quot;حماسquot; في غزة عسكرياً وأمنياً بغض النظر عن الجرائم التي ترتكبها، بمقدار ما أن المطلوب تحقيق فارق في الضفة الغربية وأظهار أن تجربة غزة كانت مفيدة أقلّه من ناحية واحدة. أنّها ناحية أظهار أن الفلسطينيين قادرون على أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وأن يقيموا سلطة داخل دولة مستقلة بعيداً عن فوضى السلاح. لا مصلحة فلسطينية في الذهاب بعيداً في الرد على العمل الهمجي الذي أرتكبته quot;حماسquot;؟ يكفي التصرف بطريقة مختلفة في الضفة الغربية كي تعود غزة ألى الحظيرة من دون جهد وعناء ودماء. هل في أستطاعة السلطة الوطنية أقامة أدارة غير فاسدة في الضفة؟ هل يستطيع رجال quot;فتحquot; التخلي عن تلك المارسات السيئة والمشينة التي جعلتهم يخسرون الأنتخابات التشريعية الأخيرة؟ يكفي أن تكون الضفة بعيدة عن فوضى السلاح والفساد بكل أنواعه وأن يتصرّف القيمون على الأدارات والمؤسسات المحلية بطريقة حضارية كي يسقط مشروع quot;حماسquot; من تلقاء نفسه. يكفي تنفيذ ما ورد في الخطاب الأخير لquot;أبومازنquot; كي تأخذ quot;كماسquot; حجمها الحقيقي. لا أفق لهذا المشروع الحماسي الذي أنطلق من غزة. أنه مشروع قائم على الغدر والتخلف بكل المقاييس، مشروع لا علاقة له بالعصر والحضارة، مشروع مرتبط بأجندة أيرنية ndash; سورية لا ترى في الشعب الفلسطيني سوى وقود رخيص الثمن يستخدم في تغذية صراعات أقليمية لا علاقة له بها من قريب أو بعيد.
في حال نجحت السلطة الوطنية الفلسطينية وحكومة الدكتور سلام فيّاض في مهمة تحويل الضفة الغربية، أي بقعة من الضفة، ألى نموذج لما يمكن أن تكون عليه الدولة الفلسطينية، سيشكّل ذلك أنتصاراً للشعب الفلسطيني على الأحتلال. لذلك، تبدو الأسابيع المقبلة في غاية الأهمية. أما ينتصر النموذج الفلسطيني الحضاري في الضفة وأما يكون مصيره الفشل. عندئذ، لن يكون مستغرباً أن تنقل quot;حماسquot; أنتصارها في غزة ألى الضفة... كي يكون تعميم للأنتصار الأسرائيلي على طموحات الشعب الفلسطيني ونضالاته في كلّ أرض فلسطين!