لم يكن القائد الضرورة ndash; وفارس العرب صدّام حسين غشيماً او واهماً حين دوّن مادوّنه على الصفحة الاولى من نسخة القرآن التي خطّها بدمه , رغم نجاسة الدم التي حذره من فعلها بعض المشايخ , لكنه مضى بفعلته مشابهاً بها تبرير كل من سبقه من الحكّام على امتداد اكثر من الف عام بتبنّيهم الخطاب الديني من واجهته السلفية الظاهرية لمفهوم النص الديني.
وما زال حتى اللحظة يمارسها السلفيون في تبرير افعال الطغاة من الحكّام عبر التاريخ , وافعال المخطئين والمغرضين من الرواة والشرّاح والمفسّرين. فمعاوية مثلاً وابنه يزيد وزياد ابن ابيه والحجّاج وسواهم ليسوا خطاة , انما اجتهدوا ولم يصبوا لا اكثر ولا اقل , وكذلك ابو هريرة مثلاً وابن تيمية الحرّاني وابن عبد الوهاب وغيرهم , وكلّهم مجتهدون , ولهم اجرآن , وفي ادنى الاحوال اجر واحد في حالة عدم الصواب. وعليه كتب صدّام ndash; وهو يعني كل مافعله طوال فترة حكمه ndash; على الصفحة الاولى من قرآنه المكتوب بنجاسة دمه المخفف بالماء ( كما روى ذلك الخطّاط ذاته ) : اللّهم اني اجتهدت , فإن اصبت اجرني , وإن اخطأت أثبني..
نعم لقد اجتهد صدّام , كما اجتهد الذين من قبله , مادام التبرير السلفي جاهز لكلّ الشواذ وعشّاق الدم والمذابح والمفاسد عبر تاريخ العرب والمسلمين. رغم علمهم المسبق بان حديث الرسول لايعنيهم بقول المجتهد , ورغم عدم استيفاء ايّ شرطٍ من شروط المجتهد فيهم كما عرّف ( المصنف ) ذلك , ورغم ان الاجتهاد غايته ادراك الحكم الشرعي في الفروع , وليس في اصول الدين او المسائل العلمية. فاذا كان المصيب واحداً ومتفقاً عليه هنا , فكيف يكون المخطئون , كل المخطئين مجتهدين , ولهم اجرأخطائهم , وهل هم فعلاً مستوفون لشروط المجتهد ؟؟
قد يصحّ هذا مفتتحاً للتبرير الفكري-الديني الذي استخدمه معاوية للاحتفاظ بالسلطة وجعلها ملكاً وراثياً لبني اميّة حصراً كما يقول القاضي الهمداني : lt; بان معاوية اول من قال بالجبر واظهره , وان مايأتيه هو بقضاء الله ومن خلقه , ليجعله عذراً في ما يأتيه ويوهم انه مصيب فيه , وانّ الله جعله إماماً وولاّه الأمر. وسار ذلك في ملوك اميّة gt;.
اي ان معاوية ndash; بما عُرف عن سلوكه المنحرف اسلامياً ndash; والشهير بدهائه وحرصه على السلطة استخدم سلاح الدين في مخاطبة الناس , وبأنّ الله قد ولاّه الخلافة وجعله إماماً , وما على الملأ سوى الخضوع والطاعة لقضاء الله وحكمه. رغم انه في الواقع عمل على إحياء التعصّب القبلي والتحزّب لآل سفيان ولعموم بني اميّة. وكان معاوية أوّل من أقام الحرس والشرطة والبوّابين في الاسلام , وأوّل من وضع النساء في السجون بجريرو الرجال , وأخذ الزكاة من الأعطية , وسخّر الناس في البناء , واستصفى أموال الناس لنفسه , وكان يردّد : أنا أوّل الملوك , وأجاز معاوية لولاته وأصحابه لعنة عليّ على المنابر. وما فعله في العراق فعله في الجزيرة والشام واليمن ومكّة والمدينة لتصير الامور اليه كملك كما كان يقول.
وذات يوم سأل معاوية عبد الله بن عمر : كيف ترى بنياننا ؟ فأجاب عبد الله : إن كان من مال الله فأنت من الخائنين , وإن كان من مالك فأنت من المسرفين.
نجح معاوية في قتل الحسن بن علي في المحاولة الثالثة بدسّ السم له عام 49- 669 م , بعد ان فاوضه سلفاً بالتنازل عن الخلافة مقابل الصلح التاريخي بين بني أميّة وبني هاشم. ومنذئذٍ أعلن ولده يزيد من بعده ولياً للعهد , واصبح هذا التوريث سائداً حتى اليوم. وتمهيداً لخلافة يزيد قتل معاوية العديد من صحابة الرسول. وحين حجّ الى البيت الحرام جلب معه منبراً من الشام ووضعه عند باب البيت , وبذا كان أوّل من وضع المنبر في المسجد الحرام.
ويشير اليعقوبي في مبايعة معاوية لابنه يزيد الى قول عبد الله بن عمر: ( أنبايع من يلعب بالقرود والكلاب ويشرب الخمر ويظهر الفسوق ! ما حجّتنا عند الله ؟ ) وقول عبد الله بن الزبير : ( لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق , وقد أفسد علينا ديننا ).
لكن بن ابي سفيان كان الأجرأ في اعلان برنامجه الاستبدادي , فأقدم على ضرب اعناق مجموعة كبيرة من صحابة الرسول مرة واحدة , وكان من بينهم : حجر بن عدي الكندي وشريك الخضرمي وصيفي الشيباني و قبيصة بن ضبيعة ومحرز التميمي والعنزي وسواهم , ذلك عام 52 ndash; 672 م. كما قال معاوية ndash; متباهياً ndash; للحسين بن عليّ : ( أعلمت أنّا قتلنا شيعة ابيك , فحنّطناهم وكفناهم وصلّينا عليهم ودفناهم ؟ ).
وكما يكررها التاريخ كان لابد من انتفاضةٍ بوجه سيرة الاستبداد , فكانت انتفاضة الحسين بن علي التي كان من المفترض ان تقودها اجيال من المستضعفين , فخاضها لوحده مع نفرٍ من عائلته واصحابه , والتي انتهت بفجائعيتها الشهيرة والتي لم ينجو منها سوى عليّ بن الحسين الملقب بزين العابدين , والذي دخل في حالٍ من الحزن شديدة على ماجرى , وأقام على تلك الحال , حتى سمّى بعض المتصوفة حاله التي أقام فيها ضمن المصطلحات الصوفية ب ( مقام الحزن ).
مرتكزات خلافية ودلالات :
في الواجهة الفكرية لهذا الصراع الذي اتسع اجتماعياً , أخذت العديد من المفاهيم التي أٌلغيت في السابق تبرز الى الواجهة وتأخذ المساحة الاوسع في الحوار. والتي منها مقارنة الافعال بمسألة الايمان وعلاقة المعرفة بالعقيدة , والتي أنضجت بمرور الوقت العديد من الحركات الفكرية والفلسفية , التي انبثق من صلبها فكر المعتزلة على يد الحسن البصري وتطوّر على يد واصل بن عطاء ليصبح فيما بعد هذا الجدل الفكري مرتكزاً اساسياً لمنهج الفكر العربي في علوم الفلسفة.
ان فعل اغتصاب معاوية منصب الخلافة واعلانه وراثة الحكم , أعادت من جديد مسألة الاحقية في الحكم منذ وفاة الرسول , وكبر السؤال حول ما اقدم عليه من تحويله الخلافة من مفهومها الشوروي الى القبلي الاموي الملكي الوراثي. فكان بعض الصحابة يناقشون هذا الانحراف الخطير في مسيرة دولة المسلمين , وكان شيعة عليّ يجددون طرح أحقية النص الالهي بالخلافة , وكانت تعتمل في نفوس الشريحة الاوسع في المجتمع أسئلة اخرى عن معنى العدل والمساواة والحق وعن معنى الخلافة اصلاً.
وأزاء هذا الاحتقان الشعبي العام , يتوّج يزيد بعد وفاة ابيه بالخلافة وراثةً. بكل ما عُرف عنه من مجون وعبث وفسق ولهو على الصعيد الشخصي , ومن جهلٍ بأمور الشريعة والاحكام الاسلامية وأمور الدولة وشئون العامة على صعيدٍ آخر.
فيسأل البعض : هل تجوز مقارنة يزيد بالحسين بن عليّ الذي ينظر اليه كافة المسلمين بإجلالٍ وتقدير كونه حفيد الرسول وابن ابنته فاطمة ؟؟
لذا كانت مأساوية مقتل الحسين منعطفاً كبيراً حاسماً امتدّ في كل حقب التاريخ االمتلاحقة حتى اليوم , على شكل انتفاضاتٍ عدّة في الكوفة ومكة والمدينة ودمشق. نعني بذلك انتفاضة التوّابين في الكوفة وثورة المختار الثقفي وانتفاضة عبد الله بن الزبير في مكة , وما رافق الاخيرة هذه من حصار جيش يزيد لها وقصفه للكعبة وبيوت الناس , واشعاله الحرائق فيها , وكذلك انتفاضة العبيد في دمشق وسواها.
بمعنى انها كانت حافزاً لنشاط العديد من الحركات الفكرية التجديدية حيناً , والتثويرية حيناً , والفلسفية المنطقية احياناً اخرى. وباتت منطلقاً تمتزج في مرتكزاته العوامل الفكرية متداخلةً بالاجتماعية والسياسية في البحث في جذور الازمة بدءاً بالنص الاسلامي الاصل.
اسئلة معاصرة :
ماهو التجديد وماهيته ؟ هل هو عملية توفيقية بين الثوابت ومتطلبات التغيير لإيهام الذات والآخر بالتكيّف مع الواقع الجديد كما يجري ؟ ام هو إعادة بناء القاعدة النظرية للاصول , لتحتمل المتغيرات ضمن نسيجٍ اكثر حداثة ومرونة واتساع , ليصبح التجديد مرادفاً للإبداع في حركة التاريخ دون انقطاعٍ عن الجذور ؟ ام انه حركة او دعوة تنظيرية فلسفية معزولة لا افق لها على ارض الواقع ؟ وهو ما أدّى الى هذه الازدواجية الخطيرة في مجتمعاتنا , بين الثوابت السلفية الجامدة وآلية التطور الحضارية والتقنية المتسارعة , وكذلك بين حجم الفراغ في النظم التشريعية الاسلامية ومستجدات الانشطة الفكرية والعلمية والانسانية في العموم.
اين هي الرؤية الواضحة حتى اللحظة في مفهومنا للإجتهاد او التجديد في الاسلام ؟ وماهي رؤيتنا للتراث ؟ وما ملامح هويتنا الفكرية الآن او في المستقبل المنظوربعد مسيرتنا الطويلة في البحث ؟
ان اي صياغةٍ رسميةٍ لجديّتنا في هذا المسعى , قد صُهرت في قوالب مسبقة الصنع تتكلّف وتلتوي لصياغة ذات المحتوى المغلق والتجريدي غالباً , غرضها الدؤوب في ذلك الحفاظ على تماسك صورة السلف ( الصالح ) بالابيض والاسود ولكن من منظور السلطة قديماً وحديثاً , بينما يغرق الواقع الاسلامي في مزيدٍ من الوحول والازمات المعقّدة التي لامفرّ من مواجهتها , ولكن ليس كما يجري بالمزيد من الهروب الى الماضي الذي لم يسمح اصلاً لحركة الفكر من ان تشغل مكانها الطبيعي عبر مراحل تاريخ الاسلام المختلفة. بل حوصرت وشوهت واُتهمت.
لابد من مواجهة مجتمعاتنا بالمجتمعات العصرية بخطابٍ آخر اقرب الى المنطق , لاكتشاف مكامن الخلل ومحاولة إعادة بنائها من الاصول. لابد من إعادة الاعتبار لحركة الفلاسفة والمتصوفين والمتكلمين في تراثنا.وعلينا الاعتراف بأخطاء الصياغات السياسية للفكر وللفكر المعارض. للآخر المختلف عنا , وللفلسفة , وللحركات الاجتماعية , وللإنتفاضات والثورات.
لابد من مقاربات اعتراضية على نهج الاقدمين لادراك حجم التناقض المحيط بنا , ومدى الاستفادة من الادوات العلمية للآخر المغاير , وتوظيفها لاجيالنا ndash; هذا اذا وضعنا جانباً ndash; الخلافات المذهبية والسياسية وتأثيرها على ممارساتنا اليومية.
فهل يبدو ذلك ممكناً ؟؟