لا أذكر أنني قد رأيت بسمة قط على شفاه الفلسطينيين أو بريق أمل في أحداقهم اليائسة إلا عندما فازت حماس بالانتخابات.
وأذكر أيضا أنني كنت وقتها أتصفح جريدة( تورونتو ستار) في مقهى ستار باكس قرب منزلي في مدينةتورونتو. توقف شاب بسيارته أمام المقهى وانطلق مسرعا كي يبتاع فنجانا من القهوة وقبل أن ينطلق بسيارته من جديد مرّ بي حيث كنت جالسة، وأشار إلى صورة الفلسطينيين -وهم يهزجون ويهتفون لحماس- تتصدر الصفحة الأولى، وقال: الآن بدأت الأمور تأخذ مجراها السليم إنه تسجيل تاريخي للديمقراطية وذلك عندما تتحقق إرادة الشعب.
واليوم يسجل التاريخ حقيقة أخرى هي اقتتال فتح وحماس. أما الحقيقة المرة والتي لازالت خافية على بعضنا فهي حقيقة مرض العرب. إنه المرض العضال الذي بدأ يوما في لبنان ولازال قائما في العراق وانتهى الآن إلى فلسطين.حيث القضية السامية التي فتحنا أعيننا عليها منذ المهد فشربناها مع حليب الطفولة وأكلناها مع خبز اليوم وحفظناها مع أبجدية الحروف ولما كبرنا سطرنا دواوين الشعر والنثر وأثرينا اللغة بملاحم البطولة والفداء ونحتنا صروحا لأطفال الحجارة وبنينا مزارات لقبورهم وهتفنا ملء الحناجر وبكل إباء وحماس فلسطين حرة عربية... وحيث فتح وحماس تقتتلان اليوم بكل حماس.وحيث تقسم فلسطين قبل تحريرها ولازالت عروبتها في سجل الضائعين.
الحقيقة الموجعة ظهرت للأعين مجردة من أي مادة للتجمل أو التزين والصراع من السلطة كان من العنف أن مزق نقابا طالما اختبأنا وراءه ونحن ندعو في صلاتنا وصيامنا وقيامنا على الظالم الصهيوني والغاصب الأمريكي والحاقد الروسي في الشيشان وفي أفغانستان وعراقستان ولبنانستان وفلسطنيان ومن يدري فربما انقسمت فتح إلى فتحان وحماس إلى حماسان ونعمنا بفتح مضاعف وحماس مزدوج!
ولعل الأكثر إيلاما أننا مازلنا نلعب دور الضحية وأننا لا نزال نشير بأصابع الاتهام لمن حولنا وأن هنالك من يسعى لجر حماس للصراع الفلسطيني الفلسطيني ولم يبدو أننا قادرين على مجابهة القبح الذي بدا في الوجوه بعد أن سقط القناع وأن نعترف أن مرضنا داخليا قبل أن يكون خارجيا وأن علتنا في أنفسنا وفي قابلينا للمرض.
و يجب ألا ننسى أن الجراثيم موجودة على الدوام و تسعى دوما للفتك بالجسد ولكن لا يتداعى سوى الجسد المهيأ للمرض، العديم المناعة، الآيل للسقوط.
وهكذا وبعد أن نحرنا الغول العراقي صبيحة العيد وظننا أن أيام العيد قد هلت، إذ بالأرض تنبت ملايين الغيلان وإذ بأيام العيد قد راحت إلى غير رجعة مادمنا جاهزين دوما للوم الآخرين وتبرئة أنفسنا.
يقول مالك بن نبي المفكر الجزائري إنه بقدر حديثنا عن مشاكلنا الداخلية بقدر الاطمئنان أننا نعمل في المكان الصحيح، وبقدر حديثنا عن الصهيونية والماسونية وما تشابه من عناصر خارجية فإننا نبتعد عن مكان الخلل.
ولسنين خلت عقد مرة مؤتمر في الغرب للحديث عن مشاكل العالم الإسلامي فقدمت (سيغريد هونكه) الألمانية كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب) وهكذا وأمام هذا البريق المبهر من نور تلك الشمس عمي القوم عن مصائبهم الداخلية وبدأوا يتحدثون عن أمجاد الماضي.
وبعد زيارة قصيرة لي منذ أعوام إلى أرض الوطن عدت بسلسة من المقالات الساخرة تحت عنوان (العطر الضائع) وكنت أنقد عبارة مكررة كانت تطالعني أينما حللت (عطر فمك بالصلاة على النبي) والقوم من حولي لأبعد قولا وفعلا عن هدي النبي وسنته ولم أنج بالطبع من التعليقات والنقد اللاذع بأنني أتحامل على ديني.
ومع أن التوجيه القرآني في الدرس الأول في خلق آدم أنه وزوجه لم يشيرا بأصابع الاتهام لإبليس مع أنه هو الذي وسوس لهما بل لقد أعلنا بشجاعة وصدق ووضوح quot;ربنا إنا ظلمنا أنفسناquot; في حين أن إبليس أعلن بصفاقة موجها اتهامه لرب العالمينquot;قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيمquot;16 :7.
وفي الدرس الثاني يأتي التوجيه القرآني للحض على أهمية العمل الجماعي فالصلاة والركوع لا يكفيان إذا لم تتوج بالتنسيق في العمل الجماعيquot;وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعينquot;43:2.
وهذا ما يذكره هشام شرابي أن الإنسان العربي ينشأ في عزلة عن مجتمعه ولا يعبأ إلا بما يجري في محيط أسرته، ويبقى هم الجماعة لا يعني له البتة، وفي المقولة السائدة (فخّار يكسر بعضو!).
وقد نقابل أناسا رائعين كأفراد وناجحين ولكن غير قادرين على العمل الجماعي.
وأذكر إبان قدومي لكندا وعند أي مقابلة للحصول على عمل، كنت أسأل عن مدى استعدادي للمشاركة في العمل الجماعي وإتقان شروطه من عدم إلغاء للطرف الآخر وأهمية الحوار واستيعاب الآخرين وحل المشاكل المحتومة بسرعة ومرونة ودون صخب.
والدرس الإسلامي الثالث في الحديث أن لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين وهنا يأتي شرط الإيمان أن يتعلم الإنسان من أخطائه وما يصل إلينا من أنباء العراق يوميا ليست بلدغة بل لدغات تفتك بالوجدان والضميرو لاتبدي أننا نستفيد حقا من تلك اللدغات و لكن العبرة لاتصل إلا لكلquot; من ألقى السمع وهو شهيدquot;.
أما رابعا فالدرس الإسلامي الأهم على الإطلاق هو في أول ما أوحي إلى النبي محمد صquot; إقرأ quot; و لكن الحقيقة المرة تأتي على لسان موشي دايان (إن العرب لا يقرؤون وإذا قرؤوا لا يفهمون! وإذا فهموا لا يعملون، وإذا عملوا لا يخلصون) هكذا جاء الوصف لأمةquot; اقرأquot;.
وإن أخبار أهل الكتاب في القرآن ليس هدفها التسلية بل الموعظة والاعتبار ولكن ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار:quot;وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولاهم ينصرون(2:85).
وفي المثل الشعبي( أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب) ومع أن الغريب لازال يحتل بلادنا إلا أننا لازلنا نعمل بالقول( أنا على أخي وأنا على ابن عمي) ونسينا الغريب ولم يبق إلا الأنا إنها الغول الذي سيعود دائما وأبدا إزاء أي فتنة نتعرض لها لتجعل من الأنا التي تعشش في نفوسنا عملاقا يلغي قضيتنا ويبرزنا أقزاما ساعية للسلطة وفي معركة الأقزام ليس من انتصار بل سقوطquot; ألا في الفتنة سقطواquot;49:9.
والنصر في المعركة بين فتح وحماس هدفا يدعو للخجل أكثر منه للفخر ولكن( إن لم تستح فاصنع ما شئت).