توماس هوبس Thomas Hobbes فيلسوف سياسي إنكليزي ( 1588-1679)) تخرج من جامعة أوكسفورد، عاصر ديكارت وغاليلو غاليلي، وتأثر بالطروحات المنهجية الجديدة التي طرحوها في مجال البحث العلمي. سعى نحو وضع نظرية متكاملة في السياسة ونظام الحكم. حيث اجتهد في ترسيم معالم العلاقة القائمة بين الدولة التي رأى فيها أهمية أن تحظى بالسلطة المطلقة، من خلال فرد واحد أو مجلس حاكم، تكون مهمته الإشراف على تسيير شؤون الأفراد وضمان أمنهم الداخلي والدفاع عن مصالحهم بإزاء الاعتداء الخارجي. والمهمة هذه لا يمكن لها أن تظهر للعيان وتدخل حيز التطبيق من دون أن يكون لها، تعاقدا مع مجموع الأفراد الذين يعمدون للتنازل عن البعض من حقوقهم لصالح، هيكل الدولة، الذي أطلق عليه توصيف ((اللوفياثان)) Leviathan كناية عن أسطورة تنين البحر العملاق، كتعبير عن القوة والبطش والسلطة المطلقة القادرة على انجاز مهامها باقتدار.
السلطة المطلقة لدى هوبس لا تقوم على الحق الإلهي، أو الأخلاق التي تميز الحاكم، بقدر ما تقوم على طريقة الضبط لمجال السيطرة والسلطة، فما يراه البعض خيرا، قد يتضارب ومصالح جماعة أخرى في ذات البلاد، ومن هنا فإن الأهمية تقوم على تقديم أمن وسلامة المواطن أولا، باعتباره الغاية والهدف الأسمى الذي يرتبط بالسلطة المطلقة، فالمواطن حين يتنازل عن حقوقه لصالح السلطة، إنما يسعى نحو تأمين سلامته وأمنه، وفي حال الإخلال بهذه الضمانة فإن العقد مع السلطة تكون لاغية.

الإنسان والحركة
كان السؤال الأهم الذي ألح على هوبس قد تركز عند العلاقة القائمة بين الدولة والمواطن، الدولة باعتبارها الجهاز الساعي نحو توفير الأمن والرعاية، عبر ما تملكه من سلطة، والمواطن الذي تتنازعه المخاوف والصراعات والرغبات المتنوعة. وفي سبيل الوقوف على تنظيم لمدى العلاقة القائمة بين طرفي العلاقة، نجد أن هوبس لم يتردد من النهل عن المنهجية الديكارتية في استقراء مدى العلاقة القائمة بين الحقل الأخلاقي والحقل السياسي، متوقفا عن مجال الحركة في المستوى الطبيعي الفيزيقي، ومسقطا ذلك على مجال السببية للوصول إلى دراسة حالة الأفراد والاختلافات القائمة فيما بينهم، فما يعتبر خيرا لهذا الفرد، قد يكون شرا بالنسبة لفرد آخر، ومن هنا جاء السؤال حول إمكانية التوفيق بين المصالح والأهواء المختلفة بين الأفراد، أهمية أن يبرز دور الدولة في ضبط مجال الحركة سعيا إلى الهدف الأسمى، والذي يتمثل في المصلحة العامة.

السباق نحو النجاح
بين الخير و الشر، تبقى الفاصلة تقوم على المزاجية وطبيعة المصالح الخاصة، بل أن عامل الحسم بينهما إنما يقوم على الإرادة، تلك التي تتصدى لها الدولة، باعتبار البحث عن المقومات والمكونات التي يتم من خلالها تمييز ملامح القدرة على الإنجاز، وليس تحقيق الإنجاز. إنه التطلع نحو تمييز مفاصل القوة، والقدرة على تمييز مفاصل السباق والتنافس الذي يتم بين الناس في سبيل بلوغ السعادة، فيما يبقى السؤال القائم، عن أية سعادة يمكن الحديث؟، وإذا كان الإنسان قد استطاع أن يفيد من عقله في التعامل مع قوى الطبيعة، فإن الأسئلة الحائرة التي عنت عليه، لا سيما حول المجهول والآتي، بقيت تدور في مجال العاطفة والانفعال، حتى كانت المصلحة الفردية أولا، والتي راحت توجه مسار الإرادة فيه. ومن واقع التوظيف للفكر والمعرفة والعاطفة الإنسانية، نجد هوبس وقد توجه، نحو تقديم نموذج الدولة العاقلة، والتي وصفها بـ اللوفياثان، باعتبار السعي إلى بناء النموذج المستمد من الحسابات العلمية، التي وفرتها أبحاث غاليلو غاليلي في مجال العلوم الطبيعية، والتي تأثر بها هوبس بشكل واضح.

القوة و الحيلة
للإنسان الحق في السعي إلى السعادة، حق مشروع في تمييز ما هو خاص به، لكن هذه الخصوصية سرعان ما تصطدم بمجموع الأفراد الذين يعيشون معه في ذات المجال، مما يشكل حالة من التنافس، الذي يصل في الكثير من الأحيان إلى التصادم بين الرغبات المختلفة، لتبرز الحاجة إلى وجود قوة عليا تمارس دور الضابط والمنظم لهذا التداخل والاختلاف في التوجهات والرغبات. كيف يمكن تمييز معالم احترام الخصوصية؟ هل بالتوافق والتسامح وسيادة الشعور بالعدل؟أم أن الرغبات البشرية الكامنة تبقى تسير في اتجاه السيطرة والقوة والتملك، ليبقى التهديد بالصدام المباشر والخطر على الحياة قائما، إن حياة تقوم على إعلاء الملكية بالقوة، إنما تنطوي على المزيد من العسف والقهر، ولا يمكن أن يتم النظر إليها إلا من زاوية قانون القوة والحيلة، كما يدعوه هوبس. وما يمكن أن ينجم عنه من توقف لمجمل الفعاليات البشرية، حيث الانشغال بالصراع والقتل والتدمير ونهاية الفعاليات الإنسانية، بل أن الخراب سيكون المعلم الرئيس والأشد وضوحا.

بين الغريزة والعقل
من الخراب إلى الدمار، هذا ما يمكن الحصول عليه، عند الركون إلى منطق الغرائز البشرية، لكن موضوع الغريزة، لا يمثل القتامة كلها، بل أن الرغبة بالسلام والركون إلى الدعة والطمأنينة تبقى تمثل حاجة أصيلة في النفس البشرية، وهذا ما يمكن تمييزه من خلال دور العقل، سعيا إلى إحلال نوع من التوافق بين المجموع، في سبيل إبراز المجال للأعراف والقواعد الأخلاقية، التي تساهم في الحد من كبح جماح الغريزة، وتقديم نطاق المصلحة العامة.
اللوفياثان- القوة العليا
كيف يمكن للناس أن يفكروا في الطريقة المناسبة للدفاع عن مصالحهم؟الحاجة تدفع بهم للتفكير باصطناع تلك القوة، التي يطلق عليها هوبس (( اللوفياثان))، وهو التمثيل للدولة أو المدينة الإغريقية، وهو السعي إلى الاتحاد في القوة العليا، حيث التوافق على التنازل في التمثيل للقوة والثروة، لصالح تلك القوة بما تراه متوافقا وتقديم الأمن الداخلي وسلامة الوطن بوجه الاعتداء الخارجي المحتمل. اللوفياثان يمثل السيادة للسلطة المطلقة، التي تعمد إلى توحيد الإرادات المتباينة من أجل المجموع، حيث الحاجة التي تجعل من الفرد مضطرا للانضواء تحت عباءة هذه القوة الهائلة الهائلة.

الدولة اللوفياثان:
1.المفاصل ndash; الحكام
2.الأعصاب- المكافأة
3.القوة ndash; الغنى
4.القضية ndash; الشعب
5.الذاكرة- المستشارون
6.الصحة ndash; الانسجام
7.الداء- الاضطراب
8. الموت- الحرب الأهلية
التوحيد والاختزال
ما هو العقد الاجتماعي الذي يتوقف عنده هوبس ؟ إنه التزام يتم بين مجمل الأطراف التي تمثل المجموع، يقوم على التنازل عن البعض من الحقوق الطبيعية لصالح طرف آخر، يتمثل في الدولة التي يستند دورها على توفير الأمن والسلام. ولكن العقد هذا لا يمكن أن يبرم ما لم يقم على التكافؤ في التنازل عن الحقوق ضمن المجموع، فيما تحظى الدولة بالسلطة المطلقة، بعد أن تتم عملية نقل الحقوق لصالحها في عقد غير قابل للنقض، باعتبار أن السلطة المطلقة قد غدت بيد اللوفياثان، و هو في الواقع من صنع إرادة المجموع. تلك هي العلاقة التي يحددها هوبس، فحواها يقوم على :
1. التأليف وصناعة اللوفياثان( الدولة) من قبل الناس، بحثا عن قوة فاعلة ومؤثرة.
2. نقل الحقوق الطبيعية، والتنازل عن الحرية الفردية، من أجل سلطة رادعة.
3. التوحيد والاختزال لمضامين القانون والأخلاق والدين، في سلطة الدولة.

الحماية والطاعة
الانضواء في المجتمع المدني، يستدعي الخضوع لقواعده وقوانينه، هذا الخضوع الذي تقوم عليه عملية الحفاظ على ديمومة فعاليات وآليات المجتمع. فيما يكون التهديد الأهم والأشد حضورا وقد تمثل في خطر نشوب الحرب، مما يستدعي وجود سلطة قوية قادرة على إثبات حضورها، ومستعدة لتقديم الحماية الفعالة عن طريق قوتها الواضحة، التي يخشى المجموع من عقابها. حماية يتم إسباغها من قبل الدولة، مقابل طاعة يقدمها الأفراد. ومن واقع هذه العلاقة فإن عدم قدرة الدولة على توفير الحماية لرعاياها، سيجعل منهم في حل من التزام الطاعة. بهذا المفهوم يربط هوبس بين الشرعية والحماية بشكل وثيق.

السيادة المطلقة
كيف يمكن تمييز العلاقة القائمة بين الدولة والجمهور؟ هل التعاقد يقوم بين طرفين، أم أن هوبس يسعى إلى توكيد مجال الفردية؟ الواقع أن التركيز هنا يتعلق بالأفراد ذوي الملكات السليمة، حيث الإرادة الطبيعية التي لا يمكن لها أن تذوب ضمن المجموع، بقدر ما تتبدى أهمية الانخراط في تجليات المجتمع المدني، عبر الخضوع لسلطة اللوفياثان الكبير الساعي إلى توحيد الإرادات. ويبقى السؤال عن طبيعة هذا التعاقد، الذي يتم بين الجمهور، فيما يكون مجال التنفيذ والانجاز وتحديد معيار الخير والشر من ضمن صلاحيات الدولة.

التفضيلات
يقرر هوبس شكل الدولة، من خلال إشارته للأنواع الثلاثة؛ الملكي الفردي، الأرستقراطي النخبوي، الديمقراطي الجماعي. لكنه يبقى يقدم التفضيل لصالح الحكم الملكي باعتبار أن الحكم الفردي يؤدي إلى تنظيم فعالية السلطة ويركزها في عنصر موحد، يضاف إلى أن الملك الغني يمكن أن يقدم عطفه ورعايته لمواطنيه، من دون الوقوع في التجاوزات التي يعمد إليها البعض من الطامحين إلى السلطة، وإذا كان الملك الفرد يغدق برعايته الخاصة على النخبة المحيطة به، فإن النظام المتعدد الارستقراطي أم الديمقراطي تتوسع فيه تلك الجماعة بتعدد الأفراد المنضوين في الجهاز الحاكم، مما يخلق حالة من التناقض والتداخل في المصالح. كذلك الحال بالنسبة إلى القرارات الصادرة عن الملك الفرد، وما يمكن أن يقود إلى ترصد لطبيعة القرار الفردي الخاضع للمزاجية، لكن هذا الترصد يمكن أن يتحول إلى إشكال أوسع وأكبر عندما يكبر عدد أعضاء مجلس الحكم.

البحث عن السلام
يقوم نموذج الدولة الهوبسية بناء على الآلية التالية:-
1. يتنازل الناس عن البعض من حقوقهم لصالح الدولة، التي تتعهد بتوفير الأمن والسلام.
2. من أجل أن يتم بناء المجتمع المدني من دون عوائق، فعلى السلطة أن تكون مطلقة.
3. بموجب السلطة المطلقة فإن السيد الأعلى، يناط به إقرار ما هو عادل وظالم، وتحديد مجال الملكية.
4.. يحظى السيد بدور الرقابة على الأفكار، ومراقبة الآراء والمذاهب التي قد تشكل خطرا على السلام الاجتماعي.
5. وضع القوانين من سلطات السيد الأعلى، وما يصدر عن السيد الأعلى غير قابل للمراجعة.
6. على الرغم من العناية بالحق العام للأفراد، إلا أن هوبس نظر إلى الملكية بوصفها منحة من قبل الحاكم.
7. يمنح هوبس الحاكم حق إقرار المذاهب الصالحة والأخرى التي قد تشكل خطرا، بل أنه لا يتورع عن القول بأن المذهب الذي يتعارض مع السلام لا يعد سليما.

بين العدل والوضوح
لا يمكن لللوفياثان أن يؤدي مهامه من دون الاستناد إلى الصلاحيات المطلقة، وتمكن مهامه في توفير الأمن، والذي يتمثل في تفعيل مجال الحياة العامة، والعمل على تشجيع النشاط الإنساني، وحث الناس على الاجتهاد والعمل، وتحقيق العدالة والمساواة، وتنظيم الضرائب والعناية بمختلف فئات الشعب، واختيار الموظفين الأكفاء للعمل في مؤسسات الدولة، والعمل على تنظيم القوانين. وهوبس في هذا المعنى يؤكد على المفصل الدقيق بين العدالة، تلك التي تكون نسبية من حيث زاوية نظر الناس لمدى تطايقها مع مصالحهم، ومسألة الوضوح التي ترتبط بالصالح العام.

في شرعية السيادة
إن شرعية الدولة تقوم على السيادة، تلك التي تكون بمثابة الروح، بل أن المجتمع المدني لا يمكن له أن يقوم في حال تعرضت السلطة المطلقة للاهتزاز، أو التنازل عن البعض من صلاحياتها. هوبس يسعى إلى تنقية النموذج اللوفياثاني عبر التوكيد على أهمية نبذ نموذج الحكم المختلط، والذي لا يتورع عن وصفه بالفساد المرض العضال الذي يهدد كيان وجسم الدولة. فيما يتبدى موقفه النابذ والرافض للمذاهب الساعية إلى فرض نفسها، على حساب مفهوم الطاعة الذي تفرضه الدولة. التوكيد هنا على أهمية تركيز السيادة في السيد أو الحاكم المطلق الذي لا يخضع لا لسلطة قانون أو أية هيئة تشريعية، يمكن لها أن تحد من سلطاته.

بين الإيمان والطاعة
يتوقف هوبس مطولا عند مسألة التعارض القائمة بين السلطة الزمنية والروحية، حتى أنه لا يتردد من السؤال الاستنكاري حول انقسام مفهوم السيادة، والذي يمثل في منظومته الفكرية إشكالا في تحديد السيد الشرعي. ومن واقع الدرس الذي استغرقه هوبس في إشكالية هذه العلاقة، فإنه تعرض لوصم الكافر من قبل بعض الأطراف، إلا أن هذا لم يمنع من توجهه نحو تقديم النقاش العلمي لهذه المعضلة، فقد وقف محذرا من خطر الجدال الديني، وما يمكن أن ينجم عنه من عواقب على الواقع المعاش. حتى أنه لم يتردد من الإقرار بأن التفسير للكتاب المقدس إنما هو أمر شديد الخصوصية، فيما أشار إلى أهمية أن تضم سلطة اللوفياثان الرئاستين؛ الزمنية والروحية، باعتبار أن الحاكم إنما يعيش في الوسط المسيحي. ومن أجل قطع الطريق على القوى المنافسة فإن هوبس لم يتردد عن الإشارة إليها وهي حسب توصيفه، البابا أو الزعامات الدينية أو المجادلين فيها. فاللوفياثان تكمن مهمته الأهم في منع الجدل الديني، والذي لا ينجم عنه سوى الانقسام، فبناء الدولة يقوم على الطاعة وليس الإيمان.

تدجين الذئب
إن حديث هوبس عن السلطة المطلقة للدولة، لا يلغي مفهوم الإرادة الفردية، بل أن صلب تنظيره يقوم على توجه إرادة الأفراد الطبيعيين، للبحث عن سلطة عليا تقوم بضمان مصالحهم وتنظيم شؤونهم. حيث البحث في المكون الأول القائم على حالة الصراع والتنافس بين الأفراد، فيما يتمثل التطور الاجتماعي في ظهور المؤسسة التنظيمية، والتي حولت هذا الكائن المستذئب الساعي إلى تحقيق حضوره على حساب الآخرين، إلى كائن اجتماعي عبر السلطة المنظمة المستندة إلى القوة الرادعة. إنها القوة المسيطرة، ولكنها الفاسحة للفردية العقلانية المستظلة بسيادة الدولة.