عندما نفكر في quot; المستقبل quot;، مستقبل المجتمع المصري مثلا، ونرسم تصورا لهذا المستقبل ونضع له البرامج والخطط والاستراتيجيات، فإن الذي يتحقق علي أرض الواقع هو مصر أخري، مصر تتجسد لا من خلال التصورات والبرامج والخطط، بقدر ما تتجسد من خلال quot; خطوط الانفلات quot;.
فالمجتمع كما يقول quot; جيل دولوز quot; يتحدد بخطوط انفلاته أكثر مما يتحدد بتناقضاته، فهو ينفلت من كل الجهات، ليست البرامج هي التي تصنع المستقبل، وواقع أي مجتمع من المجتمعات ليس منبثقا من تطبيق هذا البرنامج أو عدم تطبيق ذاك، بل هو واقع ناتج عن quot; المآلات quot; والتغيرات العديدة والمختلفة، وعن خطوط الانفلات التي تتجاوز البرنامج أو الخطط، فنحن لا نصنع المستقبل بأيدينا بقدر ما نصنع فيه.
وما يمكن قوله عن المجتمع يجوز أيضا علي حياة الفرد، إذ ان حياة الفرد هي انجراف مستمر علي خطوط انفلات مختلفة، فالفرد يؤول إلي ما يؤول إليه خارج البرامج والأهداف والمخططات المرسومة، فالسؤال ماذا تريد أن تكون في المستقبل، هو سؤال لا معني له، لأنه في الوقت ذاته الذي نفكر في هذا السؤال أو في الجواب عليه، نكون في حركة مستمرة علي متن مآلات لا نعرفها.
ألسنا مهددين في الغالب بأن نجد علي خط من خطوط الانفلات ما نريد ان ننفلت منه ؟ أليس من المحتمل أن نجد أمامنا من جديد خطر الفاشية وعودة أنظمة التسلط القمعية علي خط الانفلات نفسه ؟ أليست معظم الأفكار الأخلاقية خبيثة، وأن أفضلها، كثيرا ما يكون هو الأكثر خبثا.
لقد أدي التحول الحاصل في بنية الاقتصاد العالمي إلى تحول جوهري في دور laquo;الدولةraquo; ومن ثم مفهومها التقليدي، إذ أن انفلات رأس المال ماديًا وأيديولوجيًا من قاعدته القومية، أفرز مؤسسات اقتصادية وحقوقية فوق قومية تخدم مصالح رأس المال (المالي) الدولي المنفلت من عقاله. وبدلاً من أن يؤدي ذلك إلى انحلال أو اضمحلال laquo;الدولةraquo;، رغم أنها تعيش الآن حالة عامة من التراجع والانحسار، تبرز الدولة وأهميتها من جديد، باعتبارها ضرورة للطبقات المسيطرة (لقمع) أولئك الذين يسوء وضعهم فيتمردون على النظام الدولي الجديد في الداخل أو الخارج.
وقد كان تزايد أهمية الدور القمعي الداخلي والخارجي للدولة الرأسمالية واضحًا في ضرب الاحتجاجات المناهضة للعولمة في واشنطن وسياتل وغيرهما.
فإذا لم يعد بالإمكان، سياسيًا، وضع حد للضغط الفوضوي الناجم عن الأسواق المتكاملة، فإنه لابد من مكافحة النتائج بأساليب قمعية، الأمر الذي يعني أن الدولة المتسلطة ستغدو الرد المناسب على عجز laquo;السيادةraquo; عن التحكم في الاقتصاد.
من هنا فإن الدولة ستنفي صفتها laquo;القوميةraquo;، لتؤكد صفتها laquo;السلطويةraquo; كدولة، من خلال ممارسة دورها الجديد. مما يعني أن الدولة القومية في ظل laquo;العولمةraquo; لن تنحل أو تضمحل، ولكنها سوف تكف عن أن تكون دولة قومية أو وطنية.
وخطورة هذا الاستنتاج يتمثل في laquo;الصدعraquo; أو laquo;الشرخraquo; الذي أحدثته العولمة في بنية مفهوم الدولة التقليدي، إذ ينبغي أن نفرق من الآن فصاعدًا بين الدولة ككيان سياسي حقوقي، وبين الأمة ككيان اجتماعي تاريخي. ولعل هذا ما يفسر لنا حالاتlaquo;الاستلابraquo; القومية لشعوب وأمم بأكملها في صيرورة العولمة، والتي تشاهد بأم عينها laquo;الدولraquo; التي كانت تمثلها تدير ظهرها لها اليوم.
هذا الاستلاب، وهذا الشرخ بين الدولة والأمة، هو الذي يفسر إلي حد كبير صعود نجم الأصوليات والحركات القومية الشعوبية حتى في الولايات المتحدة نفسها، وفي أنحاء مختلفة من أوروبا (اليمين الفرنسي مثلاً) فضلاً عن العالم الثالث و الشرق الأوسط علي وجه التحديد.
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]
بريمين - المانيا