غيلان الدمشقي، معتزليٌّ وهو ثاني من تكلّم بالقدر، وعُرف عنه قوله ( القدر، خيره وشرّه من العبد ). وروي عن الحسن بن الحنفية قوله في غيلان:( أترون هذا؟ هو حجّة الله على اهل الشام، ولكن الفتى مقتول )، وكان وحيد عصره في العلم والزهد وتوحيد الخالق.
كتب غيلان رسالةً الى الخليفة عمر بن عبد العزيز يحذره فيها من انطفاء السنّة وظهور البدعة. فدعاه الخليفة اثرها وقال لغيلان: أعنّي على ما أنا فيه، فقال غيلان:ولّني بيع الخزائن ورد المظالم، فولاّه.. وصار يبيعها وينادي عليها بقوله:تعالوا الى متاع الخونة.. تعالوا الى متاع الظلَمة.. تعالوا الى متاع من خلف الرسول في أمّته بغير سنّته وسيرته. وكان فيما كان ينادي عليه جوارب خز - أي حرير ndash; فبلغ ثمنها مائة وثلاثين ألف درهم... فعلّق غيلان:من يعذرني ممّن يزعم أن هؤلاء كانوا أئمة هدىً، وهكذا يأتكل والناس يموتون من الجوع؟؟
فمرّ هشام بن عبد الملك فقال:أرني هذا يعيبني ويعيب آبائي، فإن ظفرت به لأقطعن يديه ورجليه... ولما تولّى هشام قتله على النحو الذي وعد به وقتل صاحبه. *
قد يصحّ هذا مفتتحاً لأهم المسائل التي انشغل بها الفكر العربي الاسلامي الا وهي مسألة حريّة إرادة الانسان وتوقه الى التأمل العقلي الفلسفي في النصوص، واهمية دور العقل في الافعال، والتمييز بين الحسن والقبيح.. الخ على ما يؤكّد هذه الإرادة. وتورد المراجع اسم معبد الجهني وغيلان واصحابهم على انّهم اوّل من تحدّث بأمور القدر والاستطاعة والقضاء، وهناك من يشير الى ان مسألة القدر قد اُثيرت في عهد الرسول لكنه كان يرفض الجدل في مثل هذه الامور، خصوصاً في الفترة الاولى للدعوة، وروي عنه قوله: ( القدرية مجوس هذه الامّة ).
أردنا القول ان هذه بعض الجذور الاولية في التساؤل عن دور العقل في المعرفة، ابتدأت مع الرسول ونشطت في عهد الخلفاء واستمرت مع الصحابة حتى ظهور ظاهرة المعتزلة كمنهج فكري اسلامي فلسفي. كما انشغل عامة المسلمين بأهمية موقف قادة الاسلام بعد الرسول من فكرة دور الانسان في تحكيم عقله بين المعرفة والايمان ودوره في حريّة افعاله. فوقف ضد هذا الاتجاه جميع الموقنين بالجبريّة او الذين يرجعون كل افعال الانسان بخيرها وشرّها الى مشيئة الله. واصبح لكل فريقٍ انصار ومريدين وجمهور. كما كان للحضارات المجاورة لبلدان المسلمين أثراً ايجابياً لخوض مثل هذه القضايا على يد نخبةٍ من المسلمين المشهود لهم بالثقة والايمان والتديّن ليكونوا دعاة حرية إرادة الانسان للتمييز بين المحاسن والمساوئ ومعرفة الحق عموماً. لكن موقف الفقهاء من أهل السنّة والشيعة على حدٍ سواء - خصوصاً في عصر نشوء المذاهب ndash; وقفوا بالضد من اصحاب هذه الظاهرة، ورفضوا الجدال في امور القضاء والقدر وأمور الرأي والقياس، وسُمي كل من يتحدّث بعلم الكلام او المنطق وسواها ب ( القدريين ) او اهل القدر، اي انّهم ملحدون مجوس.
في الواقع ان تلك الظاهرة الفكرية قدّمت على المستوى الجماهيري - ان صحّت التسمية ndash; مفاتيح فكرية للخلاص من الاستبداد الذي كان يحكم به الامويّون المسلمين، وأيقنوا ان ذلك الاستبداد والظلم والجور ليس من عند الله وليس جبراً عليهم - كما أشاع ذلك خلفاء بني امية وبني العباس لاحقاً -، لكن فقهاء ذلك العصر لاسباب مختلفة سايروا رجال الحكم في تعميم مبدأ الجبرية على العامة والإقرار ضمناً بخطورة مبدأ القدرية على مكانة السلطة ودور أولي الأمر.
فيكون السؤال:اذا كان حال فقهاء الامّة هو هكذا، فما هو حال من يقلّدهم ويقتدي بهم ويسير على نهجهم؟ والاّ كيف يكون دعاة الحريّة الأوائل زنادقة وجهلة واهل بدعة؟ وكيف تصبح عملية البحث في علميّة قوانين الكون جهلاً والجهل علم والمعنى التحليلي للآية القرانية بدعة؟ ولماذا على المسلم الايمان المطلق بحرفيّة النص الاسلامي بشكله الظاهري من دون تساؤلٍ او تفكّر كما أراد له رجال السلطة ذلك وأجمع عليه الشافعي ومالك وابن حنبل والقاضي ومن ثم ابن تيمية الحرّاني الذي نشر رسائله بذلك باسم ( الرد على الزنادقة والجهميّة.. )؟

هل من تجديدٍ محتمل في النهج الاسلامي؟
تكفي نظرة سريعة على خارطة المدارس الفقهية الاسلامية لإدراك حجم الاختلاف والتناقض الهائل في طرق الاجتهاد وفي مدى الإفادة من وسائل البحث العلمية عند الآخر المغايرالمختلف وتسخيرها لإغناء الفقه، هذا اذا وضعنا جانباً - وهو من المستحيل ndash; تأثير الخلافات المذهبية والسياسية على الممارسات الفقهية. نقول ذلك لان مد العلوم الانسانية والمادية بات في تماس مباشر يهدّد هيكل النهج السلفي في الاسلام، كما لم يُتخذ حتى اللحظة موقفاً فكرياً من ذلك، ولا من التراكم الكمّي الهائل لرؤيتنا الأحادية من التراث والحركات الفكرية والمعارضة وسواها، وما زالت الخلافات قائمة حتى داخل المذهب الواحد.
يرى شمس الدين في كتابه ( الاجتهاد والتجديد في الفقه الاسلامي ) أن ضرورة التجديد تقتضيه المهمّات المتعددة للواقع الصناعي والتقني الجديدين، بمعنى ضرورة اشتمال الفقه على تشريعات معاصرة بصدد المسائل الهامة في الواقع الجديد بما فيها مشاكل البيئة والتلوث وغيرها. وكذلك استحداث فقه تنظيمي ينسّق العلاقات الداخلية في المجتمع وعلاقاته الخارجية والدولية، ومن واجباته ايضاً تشخيص الخلل والنواقص المنهجية في علم الاجتهاد. **
وردت في الكتاب إشارة هامّة جداً تشير الى ان آيات الأحكام في القرآن باجماع الفقهاء هي خمسمائة آية - اي عشرة بالمائة فقط - من القرآن، واذا قدّرنا آيات العقائد عشرة بالمائة ايضاً، فهذا يعني ان ثمانين بالمائة المتبقية في القرآن هي قصص ومواعظ. بينما جاء في ( المصنف ) ان أيات الاحكام تزيد على الألف آية، اي ان هذا الخلل يُفسر باختلاف ذهنية وافق الفقهاء في تحديد الايات المعنية بهذا الصدد، اي المباشرة منها فقط، اي مايتعلّق بفقه الرجال، متغافلين عن فقه المجتمع وفقه الامّة في مختلف المجالات. هذا الإغفال لم يكن عفوياً انما كان للعامل السياسي والسلطوي الدور والتأثير الاكبر فيه ذلك لفصل او عزل دور الفقيه عن الاجتماعي والسياسي.
ثمة ضرورة تدعو الى تطوير علم الاصول عند المسلمين لتطوير أدائهم الفقهي. لما تحتاجه هذه الدعوة من رحابةٍ في الممارسات الفقهية التي بقي باب الاجتهاد فيها مغلقاً عند اهل السنّة بينما ظل مشرعاً عند اهل الشيعة، وفي ذات الوقت هو ليس مكرمةً وهمية للشيعة، لان الاجتهاد مفتوحاً عند العديد من المذاهب السنيّة، وليس عند الشيعة من اجتهادٍ مطلق في الشريعة الاسلامية. اي من النادر ان تجد فقيهاً شيعياً يتقن فقه المذاهب الاخرى، وله وجهة نظر فقهية وفقاً لتلك المذاهب، انما ماهو عند الشيعة هو عند الشوافع والحنابلة وغيرهم ايضاً، اي هنالك ثمة مجتهد واحد متخصّص بمذهبه لا غير.
ان قيود الاجتهاد عبر تاريخ المسلمين كثيرة وقاسية ومختلفة، لذا تجد من الصعوبة اليوم تكوين رؤية فقهية متطورة وهي مستندة الى تراث منهجي مشوّه، يختصر ويختزل الاخر عبر منظاره السياسي ويترجم الاحداث بمفردات قاموسه الخاص. كيف يمكن استحداث منهج فقهي متطور وفي تراثنا تم إقصاء علم الفلسفة عن اصول الفقه؟ اي لابد من دراسة الادوات البحثية المستخدمة في علم الاصول اولاً، ودراسة اسباب إقصاء عملية الاجتهاد عن مصادر التشريع كالكتاب والسنّة. اي ان منهج البحث الفلسفي يختلف كلياً عن منهج البحث في الكتاب والسنة، ومع ذلك اُقحم فيهما بعداً فلسفياً لاعلاقة له بكتابٍ او سنّة، فاحدث خللاً في علم الاصول ذاته طال حتى الدلالات والالفاظ.
ان تاثيرات الرؤية الفلسفية والعقلية ليس في علم الاصول وحسب، انما في اللسانيات وتفسير القرآن واللغة وعلم النفس والاجتماع والفيزياء والرياضيات وغيرها، قديماً وحديثاً لايمكن لاحد إغفال تأثيرها فكيف يمكن قبول فكرة إقصاء وجودها او تكفيرها علما ان علم الاصول أفاد من فروعها وابوابها اللغوية عموماً؟ كيف يمكن ان يواجه السلفي الاصولي حواراً بمفردات فلسفية خاضعة لضوابط المنهج الفلسفي في الحوار؟ واذا كان الحكم الشرعي هو الإرادة الالهية - خصوصاً فيما يتعلّق بصلاح الامور من فسادها -فكيف يمكن تشخيص هذين المفهومين أصولياً من دون الافادة من المنهج الفلسفي؟؟ وقبل او بعد ذلك، فالدلالة اللفظية هي إدراك ذهني فكيف يمكن دراستها من دون معالجاتٍ معرفية على علاقة بمناهج المعرفة الانسانية؟ اي ان الشريعة المدونة تاريخيا لم تتصد لتوضح هذه المفاهيم او تحدد خصائصها على الاقل بالقدر الذي قد يحتاج اليه الباحث السلفي التقليدي اصلاً.
مثل هذه الاشارات وغيرها هو ما ينقصنا في امور الواجبات والأمر بالشئ والنهي عن نقيضه او ضده، وكذا في اشكالية الاحكام الظاهرية وسواها من القضايا التي تتداخلها الفروض والمستجدّات التي تتطلّب نظرة عقلية فلسفية لمعالجتها، وتسود تفاصيلها روحية البحث وعلاقة المضامين بها وعلاقتها بالعلل ومواقع التأثر والتأثير فيها. وفي غياب ذلك - كما هو حالنا اليوم- ستظل قضايانا المعاصرة بلا بدائل وبلا مسانيد علمية في التراث، وستسود اكثر فاكثر لغة التخوين والتكفيرالمتبادلة بين المذاهب نحو مزيدٍ من دماء ضحايا الانسانية المسفوكة في اغلب بقاع الارض باسم الاسلام.