لا أتكلم في هذه العجالة عن الحرية بالمعنى اللاهوتي والكلامي والفلسفي الذي لم يتمخض لحد هذه اللحظة عن نتائج ملموسة سوى المزيد من التخبط والفوضى واللبس، ولا أتكلم هنا عن الحرية بالمعنى أو بالاحرى بإفقها الذاتي، فهذه الحرية بعيدة عن التناول على صعيد الحقوق والواجبات، فإن أي إنسان قد يجد نفسه حرا في أن يتأمل أي شي، وأن يجد نفسه أي شي ومع أي شي، وأن يتخذ أي موقف نفسي داخلي أزاء أي شي، ومن الصعب إن لم يكن من المستحيل إخضاع هذه النموذج من السلوك الحر إلى القراءة السياسية، أو حتى التحليل العلمي فضلا عن الفلسفي، ولا عن الحرية بالمعنى الشرعي الذي دونّته دساتير أثينا السابقة وأعراف الامة الامريكية قبل قانون تحرير العبيد وكتب الفقه الإسلامي التي تقابل الرقيّة، وإنما أتحدث عن الحرية بأفقها الموضوعي السلوكي العام، أي حقي في الإختيار، أن أختار الحياة التي أؤمن، والفكر الذي أعتقد والطريقة في العيش ألتي أُفضل hellip; الحرية التي نناضل من أ جلها، وننشدها، ونعمل على طريقها ، وهي الحرية التي تشغل السياسي قبل الفلسفي، والإنسان العادي قبل المفكر. ولا أتكلم هنا عن الوجود بالمعنى المصدري الذي كان وما يزال إلى حد ما موضوعة الفكر الفلسفي، أقول إلى ( حد ما ) لان هناك دعوات قوية لهجر الفلسفة هذه ( الموضوعة ) التي كانت وما زالت لغزا مميتا، سحريا، عصي على الحل اليقيني ، بل أتكلم عن وجودي أنا، وجودي بابعادي الثلاث
وبأسمي ورسمي، لحمي ودمي وعظمي، ولو شئت لقلت وجودي أنا ( فلان بن فلان ).
أتكلم عن هذه الحرية، وهذا الوجود hellip;
ترى ما هي العلاقة بين حريتي ووجودي ؟
لنكن أكثر وضوحا hellip;
لا شك أن الوجود أسبق من الحرية، وجودي اسبق من حريتي، لا معنى لحريتي من دون أن أحظى على نعمة الوجود ( وفي تصوري أن الوجود نقمة وليس نعمة.. )، لا موضوع لحريتي قبل أن أكون مفردة وجودية، يشار إليها بالبنان، وتسمّى بأسم معيّن، وتناط بها واجبات وتعطى لها حقوق، فأنا موجود قبل أن أكون حرا، لان الحرية التي أتكلم عنها كما نوّهت سابقا هي الحرية الموضوعية، ا لحرية التي تشكل أحد مفردات برامج بعض الاحزاب السياسية، وبعض الدساتير وبعض مؤسسات المجتمع المدني، وبالتالي، لا حرية من هذه النوع بالنسبة لي لو لم أكن موجودا، وقد بلغت سن التمييز والشعور بالذت والاحساس بأني إنسان وغيرها من مقتربات الرجوع إلى كياني كحقيقة واعية بكيانها، تحس بوجودها.
وجودي قبل حريتي، ولكن حريتي أثمن من وجودي، هنا تتشكل المعادلة بوضوح إلى حد كبير، فأنا قد أكون موجودا ولكن لست حرا، بسبب أن هنا ك إ ملاءات تصوغ حياتي، تصوغ نوع حياتي، ليست إملاءات طبيعية بل إملاءات أديولجوية وسياسية خارجة عن إرادتي، مفروضة علي، فأنا موجود حقا، فها أنا اشعر بكياني، اتحسس جسدي، احمل اسمي، ولكن لست حرا، لا أقصد أني عبد بالمعنى القانوني، بل عبد بالمعنى الموضوعي، لأني محروم من الإختيار، الإختيار في قاموسي ممنوع، بل معدوم، لا أشعر به، لا يمكنني حتى تسميته.
هناك طريقة تفكير مفروضة علي، وهناك نوع نظام سياسي يجب علي أن أتكيّف معه، وهناك قيم إخلاقية غُرزِت فيَّ وفق نظام صُمِّم سلفا، وبالتالي، أنا ( موجود ) ولكن ليس ( حرا ). فإذن من الأخطاء في التعبير والمنهجية أن نقول ( الحرية قبل الوجود ).
لو كانت الحرية قبل الوجود لما ناضلنا من أ جل الحرية ولا كتبنا عنها، ولأنعدم كل حوار بل لما كان هناك معنى لإثارة مثل هذا السؤال، فإن ما قبل الوجود ــ أ ي ما قبل وجودي ـ لا شي بالنسبة لي، سواء كان هذا الشيء هو الحرية أو غير الحرية. وربما تشير إلى ذلك الاية الكريمة ( هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا)، فقد تشير إلى الوجود الشخصي، فإن هذا الإنسان أو ذاك قبل أ ن يولد وينشأ ويتكون لم يكن شيئا مذكورا، سواء على مستوى القيمة أو مستوى التحقق.
إذن ما هو جوهر العلاقة بين الحرية والوجود، أي بين حريتي ووجودي ( أنا )؟
في تصوري المتواضع أن حريتي قبل وجودي، ولكن باي معنى ؟ ألم أقل أن وجودي أسبق من حريتي ؟ المعنى هنا آخر بالمرّة، أقصد هنا القيمة، لا أتكلم هنا عن الاسبقية الزمانية، بل الاسبقية على صعيد القيمة، أو الثمن بعبارة بسيطة وربما تسطيحية، لقد دخلنا بحيثية جديدة، لم نعد نتحدث زمنيا، بل نتحدث عن قيمة الحياة، قيمة الوجود، وليس عن تحقق الوجود، لا قيمة لوجودي من دون أن أكون سيّد إختياري، من دون أن أختار ما اؤمن به وأفضله على غيره واستسيغه روحيا وعقليا وفكريا، تلك معادلة جديدة في تصور العلاقة بين الحرية والوجود. لا تعتمد الزمن بالمعنى التقليدي، أقصد مرور الايام والسنين، بل الزمن بالمعنى الحيوي، الزمن الفاعل وليس الزمن بمعنى الوعاء الظرفي لقد تبنت الفلسفة الوجودية علاقة الوجود الشخصي بالحرية من هذه الزاوية، وتمكنت من اجتراح مجموعة مفاهيم أو آليات لتحليل الوجود إنطلاقا من قراءتها المعمقة لهذه العلاقة، وذلك مثل القلق والتوتر والتعالي والسمو والحزن والوجد وغير ذلك ، ويشير كثير من الباحثين إلى أن الفلسفة الوجودية إنما كانت مرحلة إضطرارية بسبب ما عانته أمم وشعوب أوربا من مأسي حربين عالميتين مدمرتين جاءت على كل خيرات اوربا وحضارة أوربا وإنجازات أ وربا، ولكن ألم يعاني الانسان اليوم في العالم أكثر مما عانه إنسان اوربا بسبب تلكم الحربين المدمرتين ؟
لقد ضاع الانسان اليوم في ظل صراع مدمر بين مصالح كونية وقومية وأنانية، وتحولت العلاقة بين الإنسان والآخر علاقة تقول على الفرض، والاستعباد والاستبعاد، وقد وظفت كل القيم والاديان والفسلفات على هذا الطريق الموحش الموجع...
فهل تعود قضية العلاقة بين الوجود والحرية جوهر الفكر الإنساني ؟ وهل تعوعد على رأس الموضوعات التي يجب أن نناضل من أجلها جمعيا ؟
إن ذلك سيكون بداية خير، ومطلع نور، فالبحرية، والحرية المطلقة نشعر أ ننا بشر ولا غير، فلا الاقتصاد المرفّه ولا العمران الشاهق، ولا الإنجازات العلمية الكبيرة تسعد الانسان بقدر ما تسعده فسحة من الحرية.
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات