من مذكرة سفير عربي في اليابان
مع بزوغ الألفية الثالثة بداء منظرو الفلسفة الرأسمالية، وبتحريض من الشركات العالمية العملاقة، للترويج المستمر للخصخصة بحيث اقتنعت الكثير من دول العالم بأن الخصخصة هي المنقذ الوحيد لجميع مشاكلها الاقتصادية. وقد تأثرت اليابان بهذه الموجة، مما أدى لصراع فريقين سياسيين. الفريق الأول يؤمن بضرورة استمرارية ما تحقق بعد الحرب من خلال الرأسمالية المسئولة اجتماعيا، والتي وفرت الوظيفة والرعاية الصحية والتعليم وتأمين البطالة والتقاعد لجميع فئات الشعب الياباني المختلفة. بينما يعتقد الفريق الآخر بأن اليابان لن تستطيع أن تستمر في المنافسة في سوق العولمة بدون التوجه لتحرير السوق من القيود، وخصخصة البنية التحتية والخدمات الاجتماعية.
وقد كتب وليام بابف المحلل السياسي لجريدة الهرالد تربيون الأمريكية، في جريدة اليابان تايمز في الخامس عشر من هذا الشهر، مقالا بعنوان quot;أسطورة الخصخصة تنهار في مأساة جسر مينوسوتا،quot; ينتقد فيه الكاتب المستوى المتدني لبعض الخدمات العامة بعد الخصخصة التي انتشرت في الولايات المتحدة وبريطانيا والدول التي ترضخ لسيطرتهما. ويعلق الكاتب ساخرا بأنه quot;حينما ينهار جسر في بلد متقدمة صناعيا، وتفلس الشراكة الصناعية العامة والخاصة، وفي مسقط رأس الرأسمالية المعاصرة الصناعية، مع قرب تعطل مطار لندن وأنظمة المراقبة الجوية الأمريكية، ويرتطم الاقتصاد العالمي بنوبات من الاستغلال المتعمد للرهانات العقارية في ائتمانات مشكوك فيها، فمن الضروري مراجعة عصر سوق الرأسمالية الحماسي الوهمي والغير منطقي الذي نعيشه.quot;
ويسترسل الكاتب فيقول بأن الوهم الرئيسي الذي نعيشه ونسمعه كل يوم هو تفوق القطاع الخاص على القطاع العام. فمن المفروض أن تكون السوق الدليل المعصوم للرأسمالية العصرية، ولكن مع الأسف لا تبني السوق البنية التحتية للقطاع العام. وقد كررت مرجريت تاتشر سابقا، حينما سوئلت عن تصوراتها عن الحاجة لبناء القطار الفرنسي البريطاني فقالت، quot;لو أحتاج القطاع الخاص لقطار القناة الفرنسية الانجليزية سيعمل على بناءه.quot; وطبعا هذه هي حماسية نظرية السوق، ولكن مع الأسف هي الحقيقة الخاطئة. فتجارة السوق لا تحفر قناة ولا تنشئ بنية تحتية للمواصلات، لأن هذه المشاريع تعتمد على أيفاء الديون لسنوات طويلة، والسوق تعتمد على الأرباح الشهرية أو السنوية في أحسن الأحوال. فمثلا شركة بوينج، والتي تقدم للسوق التجارية العالمية بمنتجات طويلة الأمد، حينما تنتج للسوق طائرة جديدة ستحتاج لعقود طويلة لتستطيع أن تسجل أرباحا. ولا شك هناك ميكانيات تجارية لجمع أموال لاستثمارات طويلة الأجل، ولكنها تحتاج لضمانات حكومية، وقد تكون هذه الاستثمارات جزءا من ديون الدولة الرسمية. وحينما لا يتوفر هذا الضمان، كما هو الحال في مشروع حفر القناة الفرنسية الانكليزية، ومع خطاء توقعات الإرباح السريعة، تكون النتيجة الخاسرات المتكررة ونزول أسعار الأسهم، وضياع أموال المستثمرين.
ومنذ السبعينيات، أدت الايدولوجيا المضادة للحكومة ونظام الضرائب في الولايات المتحدة وبريطانيا والدول التي تحت سيطرتهما، لفشل صيانة أو استبدال البنية التحتية الموجودة، بالإضافة للقضاء على المؤسسات الحكومية المراقبة والمنظمة لإعمال القطاع الخاص. والملاحظ تردي خدمات المواصلات البرية والجوية في الولايات المتحدة، ولكن يحتاج هذا التردي لانهيار جسر أو تحطم طائرة لنرى الخبر على صفحات الجرائد والمحطات الإعلامية، ولتبدءا الوعود من المسئولين والسياسيين بالتغير. وأية وعود ستكون معرضة للشك بسبب الحاجة لأكثر من مائة وثمانية وثمانين مليارا من الدولارات، وجيل مستقبلي من المتخصصين للتمكن من تطوير هذه الخدمات. كما أن الإدارة الأمريكية مشغولة بحرب استنزافية في الشرق الأوسط وأفغانستان. وقد نحتاج لانهيار أكثر من جسر لتفكر الإدارة الأمريكية بتغير أولوياتها. ولا يبدو بأن هناك حل في الأفق لنظم المراقبة الجوية المهملة، ولا للتسرب من الإنفاق، فقد تحطم نفق جديد في مدينة يسطون قبل أسابيع قليلة.
ويعتقد الكاتب بأن تسلم القطاع الخاص لمسؤوليات البنية التحية للمجتمع، هو نوع من اختطاف المسؤوليات من الإدارة الحكومية، والذي أصبح التصور السائد هذه الأيام بالاجترار المتكرر لكلمة الخصخصة. وما نشاهده اليوم في بريطانيا، من انهيار شراكة القطاع الخاص والعام في تجربة خصخصة خدمات المطارات والقطارات ومترو الأنفاق، يؤكد بأن الخصخصة لم تحل مشكلات خدماتها المعقدة، بل بالعكس زادت المعضلات بعدم تمكن تغطية النفقات الطائلة، والتي تجاوزت الإرباح. وقد سمعنا الكثير في السنوات الأخيرة عن المزايا الحماسية الوهمية للقطاع الخاص، وبالأخص عن الفكرة بأن المنافسة ستؤدي لزيادة كفاءة الخدمات العامة وانخفاض مصاريفها المالية. ومع الأسف هذه أفكار نظرية، فمع أن الربحية هي حافز هام للإنسان، ولكن أثبتت التجربة المرة بأن الخدمات العامة تحتاج لإدارة حكومية مخلصة لتغطية المصاريف الهائلة، ولاستمرار تقديم الخدمات من موظفين متحفزين لخدمة المجتمع والوطن.
وفي عام 1992، قرر الأمريكيون المحاربون لصالح الخصخصة باستلام القطاع الخاص للخدمات الطبية، وذلك بتحويل تأمين الرعاية الطبية لشركات التأمين الخاصة، بدل أن يكون التأمين الصحي مسؤولية القطاع العام كما هو الحال في كندا ومعظم الدول الأوربية. وقد أوهموا هؤلاء الشعب الأمريكي بان مسئولي الحكومة سيتدخلون في قرار علاجهم ويحددون أطبائهم. لذلك قرر الشعب أعطاء المسؤولية لمدراء شركات التأمين الخاصة، الذين يعملون تحت ضغوطات توقعات أسواق الأسهم وتطلعات المساهمين للإرباح الربع سنوية، متناسين المرضى ورعايتهم الطبية. ويعض الشعب الأمريكي أصابعه اليوم من شدة القهر والمعاناة لخطاء قراره.
وينتقد وليام بابف وبشدة النظرية الوهمية وراء الخصخصة، والتي تكرر بأن المال هو الحافز الوحيد لكفاءة أداء الإنسان. ويعتقد بأن هذا هراء مادي جنوني، يفقد الإنسان أهم مميزاته، وهي إنسانيته. فالموظف الحكومي والمسئول المدني كانوا دائما يتطلعون وبفخر لخدمة وطنهم وشعبهم وبدون التفكير في الأموال والغناء. ومع الأسف الشديد، وبعد العقود الطويلة من التشويه المستمر من خلال ثقافة الغناء المادية المعاصرة، ومن خلال المبالغ الطائلة التي دفعته الشركات لقنوات الإعلام لتشجيع هذا التوجه المادي الجشع، فقد أنهار هذا الاعتزاز والفخر بخدمة المجتمع من خلال العمل الحكومي، وسيكون من الصعب إرجاع إنسانية الإنسان من جديد وإبعاده عن ثقافة الهوس بوهم الغناء، من خلال العمل بالقطاع الخاص.
وقد علق البروفيسور أنتوني وليم الأستاذ بكلية الاقتصاد بجامعة لندن في كتابه الجديد quot;وكينومكسquot; بأن المنافسة التجارية من خلال مؤسسات السوق هي القلب النابض للاقتصاد النشط، ولكن هناك دروس إضافية يجب أن نتعلمها وذلك بأننا لا نستطيع الاعتماد على المنافسة والمصالح الشخصية القصيرة الأمد وحدها لنطور الإبداعات الإنسانية والاختراعات الجديدة والاقتصاد المجتمعي. كما أن السوق المتحركة النشطة تحتاج لقواعد اقتصادية مجتمعية متينة وهي القوانين المشتركة للبنية التحتية، والمؤسسات الاقتصادية الصلبة، والمعلومات الدقيقة، والوحدات القياسية المشتركة، والتكنولوجية المساهمة والمشتركة بين القطاع العام والخاص. وقد بداء عدد متزايد من قيادات القطاع الخاص يقدر أهمية القواعد الاقتصادية المجتمعية، والزمالة والمشاركة بين القطاع الخاص والعام في تطوير التجارة العالمية التكنولوجية الجديدة. والسؤال لعزيزي القارئ، هل سنبداء في وطننا العربي بتفهم الأخطاء المرافقة لظاهرة الخصخصة الجديدة؟ وما هو دور القطاع العام في الألفية الثالثة؟ وكيف ستتعامل الحكومات المستقبلية مع تحديات قوانين العولمة والتطور التكنولوجي في سوق التجارة العالمية؟
سفير مملكة البحرين في اليابان
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه
التعليقات