من مفكرة سفير عربي في اليابان
بداء القلق يعم المجتمع الياباني من انتشار الجريمة والفساد الصغير كأحد الظواهر السلبية للعولمة. فقد نشرت جريدة اليابان تايمز افتتاحية يوم السابع عشر من يونيو عام 2007 وبعنوان، الجرائم في أكيهبارا ليست لعبة. وعلقت بأن تقرير دائرة الشرطة المتروبوليتية قد وضح بأن ما سمته بالجرائم الإبداعية بدأت تزداد في سوق أكيهبارا الالكترونية. فسرقة حقائب اليد والسلع، وبيع السلع الممنوعة، وتقديم الخدمات الغير قانونية قد وصلت لمستويات مقلقة.
وتمنت الجريدة بأن لا تكون ظاهرة أكيهبارا الجديدة عرض لمعضلات اجتماعية اكبر وأسوء في المجتمع الياباني. ومن السهل أن تنتشر هذه الظاهرة في المجتمع الياباني الآمن والمسالم، فمثلا ترى النساء نائمة في القطارات بالحقائب اليدوية الشبه مفتوحة والمليئة بالأموال، ومع ذلك لا أحد تحلو له نفسه بالسرقة. والكثير من البيوت ممكن فتحها بسهولة ومع ذلك لا أحد يجرءا الاقتراب منها. وهذه الأوضاع الآمنة، والمرتخية أمنيا مشجعة لكثرة السرقات والجرائم في بعض البلدان. ونحتاج لتغير الشعور الدائم بالأمان والبدء بالحذر. ولا يمكن توجيهه الاتهام لمجموعة محددة من الأشخاص، لا الأجانب ولا العاطلين عن العمل، ولا عصابات الجريمة المنظمة. فهذه ظاهرة اجتماعية لا يمكن تبسيط أسبابها المتشعبة، ولكن الحذر والردع العملي سيأتي بنتائج إيجابية.
واسترسلت الصحيفة تحذر بان سوق اكيهبارا تعتمد على المشترين الأجانب، فأية خطوة غير حكيمة لمواجهة الجريمة ستؤدي لمأساة انخفاض المبيعات. فوقف الجريمة في بدايتها، وبتكلفة ممكنة، ستؤذي لنتائج سريعة وناجحة. وقد أصبح معاقبة الفساد والجريمة في دول كالولايات المتحدة الأمريكية نزف اجتماعي واقتصادي لا يمكن تصوره. فالجريمة تغذي نفسها وتخلق الظروف المناسبة لجرائم اكبر وأكثر. وقد يبدو الكلام عن خلق بيئة اللاجريمة خيال جامح، ولكن من المعروف عن اليابان بأنها بلد اللاجريمة نسبيا، وما يحتاج إلا لقليل من التكيف للوقاية منها.
أكيهبارا أحد وجوه اليابان المهمة، فلو تلاحظ عدد اللغات التي تستعمل في هذه السوق لتتصور بأنك في الأمم المتحدة. ومع ذلك من الممكن اعتبار مجتمع الأمن والأمان الياباني مادة للتصدير كما هو منتجاتها التكنولوجية وثقافتها المجتمعية. وقد تعلمت الشرطة في جميع العالم من خبرة الكوبان المجتمعي الياباني. فنسبة الثقة والراحة المتوفرة في بيئة المدينة هي نوعية فريدة يمكن أن تكون اليابان فخورة بها، وليس من السهل إرجاعها حينما نفقدها. والجريمة تتبعها سلبيات اقتصادية واجتماعية، وبالسلوك السليم والخطط المدروسة، من الممكن السيطرة عليها.
وقد أثلج صدري في الأسبوع الماضي خبر اهتمام الحكومة المصرية بظاهرة الفساد الصغير، وقد أعجبت بجرأة الحكومة لطرح هذا الموضوع مع حساسيته الشعبية. فقد صرح مسئول بأن الحكومة المصرية جادة تماما في مواجهة الفساد، واتخاذ الإجراءات الحاسمة ضده. وتقوم بإعداد دراسة لمواجهة ظاهرة الفساد الصغير وإيجاد الصيغ المناسبة للتعامل معه. كما عرف المصدر عناصر الفساد الصغير بأنها الوساطة والرشوة الصغيرة وتقديم الهدايا والاستعانة بالمعارف لتسهيل الإجراءات، والتعامل السيئ مع المال العام والاختلاس والتحايل على القوانين.
وقد اهتمت المجتمعات الديمقراطية بمعضلة الفساد الصغير وتعاملت معه بصرامة، لما له من أثر سلبي على أخلاقيات المجتمع واقتصاده وتنمية أجياله المستقبلية. وتعرف المصادر الغربية الفساد بالسلوك الغير قانوني للحصول على منفعة شخصية، كالرشوة، واستغلال الشخصي للمركز، أو استغلال المعلومات المرتبطة بالمركز للثراء. وتنتشر في المجتمعات الغير مترابطة اجتماعيا، والتي يختفي بها مفهوم الخجل والحياء الاجتماعي، وينعدم بها التنفيذ الصارم للأنظمة والقوانين التي تحارب الفساد. كما بينت الأبحاث العلمية بتلازم الفساد مع البيروقراطية والاستغلال التجاري. وهناك علاقة عكسية بين الفساد والتنمية الاقتصادية، فكلما قل الفساد ازدادت التنمية. والعلاقة عكسية أيضا بين الفساد والأخلاقيات المجتمعية والقيم الدينية، وحرية المتاجرة، وتواجد الحكومات الديمقراطية، والمعايشة الطويلة للمواطن في المجتمعات الديمقراطية، وصرامة تنفيذ الأنظمة والقوانين وبدون وساطة.
وقد أهتم الكثير من الكتاب ورجال الإصلاح بمشكلة الفساد. فقد علق الصحفي النمساوي كارل كروس على موضوع الفساد فقال، quot; الفساد أسوء من البغاء، فالأخيرة تؤثر على أخلاقيات فرد ما، أما الأولى فتحطم أخلاقيات أمة بكاملها.quot; كما كتب روائي القرن العشرين الكاتب البريطاني جراهام جرين فقال، quot;لقد لاحظت بأن الرشوة تغير العلاقة بين الرجال. فالرجل الذي يقدمها، يخسر جزء من أهميته، والرجل الذي يقبلها يصبح واطئي، كالرجل الذي يدفع له للبغاء.quot; وهناك الكثير من الكتابات عن الفساد في ثقافتنا الإسلامية ولا نحتاج لتكراره.
ومن الظواهر الجديدة للفساد الصغير في الأسواق الأمريكية هي سرقات التسوق. وقد ذكرت الصحافة الأمريكية بأن شركة ولمارت للمبيعات تخسر أكثر من أربعة مليار دولار سنويا بسب سرقات المشتريين. ويقدر بأن مجموع السرقات الصغيرة في الأسواق الأمريكية تصل لأكثر من أربعين مليار دولار سنويا. ومن سيدفع ثمن هذه السرقات غير الإنسان العادي الذي يذهب للتسوق، حيث ستضاف على مصاريف فاتورة الشراء.
ومن أسوء ما ورثته مجتمعات العالم الثالث من الاستعمار، هو مشكلة الفساد. وقد ثبت بأن الفساد سببا هام لاستمرار الفقر والجريمة في دول غنية بمواردها الطبيعية، ولكن يضيع غناها بين الرشاوي، وصناعة الحروب. ومع أن الفساد الكبير خطير جدا، ولكنه محدود بين فئة مجتمعية صغيرة، ولكن الفساد الصغير هو ظاهرة مجتمعية عامه ودمار لأخلاقية المجتمع بأكمله. والمثل المعروف للفساد الصغير في مجتمعاتنا العربية هي الوساطة، والتي تعني سرقة فرص الغير. ولنضرب مثلا عن مدى خطورة هذه الظاهرة في مجال التعليم. ولنفترض بأن هناك وساطة في أحدى المجتمعات في توزيع البعثات الدراسية، ويكتشف طالب بأن الطالب الأقل منه كفاءة يحصل على البعثة الدراسية مكانه. فما هي نتائج هذا الفساد الصغير؟ أولا، لن يحس الطالب المتلقي للبعثة بقيمتها، كمن يحصل على الأموال من القمار، وثانيا لن يحترم قيادته وطبعا سينافقها، وثالثا سيتصور بأن مستقبله لا يعتمد على عمله وإخلاصه، بل عليه تعلم الفهلوة لبناء المستقبل. وتصور عزيزي القارئ لو اعتمد مستقبل شباب أمة على الفهلوة فما هو مصيرها. أما الطالب المظلوم الذي خسر البعثة والتي يستحقها، سيفقد ثقته بقيادته وحكومته وشعبه، وسيعيش تعيسا حاقدا وحاسدا. ولنتصور ما مصير المجتمع الذي يتربى شبابه على الحقد والانتقام، والذي قد تتلقفه خلايا الإرهاب.
لذلك تهتم الحكومات الديمقراطية بتحديد وتنفيذ المعاير الدقيقة اللازمة لاختيار الطلبة في دخول الجامعات والكليات التكنولوجية، وللحصول على البعثات والمنح. ويعتمد القبول للجامعة على المستوى الأكاديمي للطالب،وتقيم أساتذته، ونتائج امتحان العام لوحدة المعاير، ونشاطاته الغير أكاديمية، واهتماماته المجتمعية، والأسئلة الشخصية الكتابية. ولا تعطى أهمية تقيميه للمقابلات الشخصية الشفهية. كما أن اختيار الطالب للدخول للجامعة لا علاقة له بإمكانياته المادية. فحينما يقبل الطالب، تحاوره الجامعة عن كيفية تغطية مصاريفه الدراسية. فإذا كانت إمكانياته المادية جيدة فليس له حق في أية مساعدة مالية أو بعثة، أما الطالب المحتاج فتغطى مصاريفه من خلال المنحة الدراسية الجزئية، وعمله في الخدمات الجامعية، ودين يدفعه بعد التخرج. وحوالي نصف طلبة الجامعات الأمريكية يحصلون على منح لا تزيد عادة عن نصف المصاريف، ويغطي الطالب وعائلته الجزء الآخر. والجدير بالذكر بأن معظم الجامعات الغربية تعتمد على المساعدات المالية من التجار وخريجي الجامعة، وتقدر هذه المساعدات بالمليارات من الدولارات. كما أن الكثير من الجامعات المشهورة أنشأها رجال الأعمال وتبرعوا برؤوس أموال طائلة لاستمرارها.
والسؤال لعزيزي القارئ هل من الممكن، في مجتمعاتنا العربية، أن نتخلص من الفساد الكبير قبل أن نتعامل مع معضلة الفساد الصغير؟ وهل نحتاج لدراسات إحصائية صادقة عن مدى إنتشار هذه الظاهرة، وأسبابها، وطرق معالجتها؟ وهل من الضروري أن يبدءا كل منا بإصلاح نفسه وعائلته قبل أن البداء بالإصلاح المجتمع بأكمله؟ وهل سنركز على علاج هذه الظاهرة في التعليم لنخلق المستقبل المشرق لوطننا العربي الكبير؟
سفير مملكة البحرين في اليابان

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية