من مفكرة سفير عربي باليابان

السؤال المحير والذي يشغل كل سياسي واقتصادي عربي اليوم هو هل ستبدأ الحداثة والتنمية في مجتمعاتنا العربية بالإصلاح السياسي أم الإصلاح الاقتصادي. وأرجو أن نبدأ الحوار بالاتفاق على مفهوم مصطلح الإصلاح. فقد تعطي كلمة الأصلاح معنى خاطئ بأن الماضي كان طالحا، ولم يتحقق شيء، وجاء الوقت لأصلاحه. وهذا ما لا أرجو أن نتصوره أو نطرحه. ففي الواقع بأن تطور المستقبل يتم على انجازات الماضي، فتطور الحضارة المعاصرة أعتمدت على الحضارات الإنسانية السابقة في مصر والعراق والهند واليونان وبلاد الروم والفرس والصين وأمريكا اللاتينية. فكل هذه الحضارات ساهمت في ما نعيش فيه اليوم من تقدم وتطور.
فالعمل لبناء المستقبل اعتمادا على ما تم من انجازات الماضي يحمي وحدتنا من التفتت، ويوجهنا للعمل كيد واحدة، ونبتعد عن الأسأة وأتهام بعضنا البعض، فنحافظ على الوقت الثمين، والذي إن لم نقطعه سيقطعنا. كما يجب أن نقدر كل ما تم من بناء وتطور مع التحديات الصعبة التي عانت منها بلداننا من الحكم العثماني والاستعمار وما رافقته من النكبات والحروب. فلنفهم مصطلح الإصلاح بأنه تعبير عن استمرارية التطور من مرحلة الى أخرى، والبناء على ما تم من انجازات.
وتلاحظ عزيزي القارئ بأن السوفيت بداءوا بالأصلاح السياسي أولا وكانت تجربتهم صعبة ومره. بينما بدأت الصين بالاصلاح الاقتصادي وألحقته بالاصلاحات السياسية فكانت تجربتها أكثر نجاحا وآخذة في التطور السريع. وقد نتعلم من هاتين التجربتين، ونستفيد منها لبناء المستقبل. وهناك قلق يساور البعض عن الإصلاحات الديمقراطية، ويتساءل بأنه وبعد سنوات طويلة من السياسة المجتمعية التقليدية بقيادة النخبة كيف ستنتقل المسئولية فجأة إلى البرلمانات ونواب الشعب، المنتخبين بكفاءة، ولكن بدون الخبرة اللازمة، وبترسبات قهر وأنتقام سابقة، لتقيد دفة البلاد واقتصاده في عالم العولمة المعقد.
وقد حاولت التجربة الديمقراطية البريطانية أن تراعي هذا القلق وتخلق التوازن. فقررت أن تقسم البرلمان الى قسمين، مجلس منتخب من الشعب ومجلس آخر معين من خيرة خبرات البلاد المخلصة والمتفق عليها. وخلق هذا التصور توازن بين الأصلاح السياسي وأستمرارية التنمية والتطور الاقتصادي. ولا شك بأن مسؤولية السلطة والحكم تحتاج لشيء من الخبرة. كما أن التطورات الديمقراطية تحتاج للوقت لتتم بشكل متوازن سليم وبمشاركة التربية والتعليم من المهد الى اللحد.
ولنتذكر عزيزي القارئ بأن التفكير الثوري الانفعالي المتميز بهدم الماضي، فشل خلال العصور أن يبني على الماضي لأصلاح المستقبل، بل ترافق في كثير من الأحيان بأنظمة أسوء. وتؤكد ذلك الخبرات السابقة بالثورات في إفريقيا وأسيا وأمريكا اللأتينية. وقد أكد البروفسور أدوارد دبونو في كتابه التفكير المتوازي quot;بأن نطبق نظرية إزالة السيئ لتبقى الروائع، سيؤدي للفوضى وقد يتحول الوضع لأسوء من ما قبله.quot; لذلك نحتاج أن نطور التفكير التنفيذي البناء، ونبداء الأصلاح التدريجي اقتصاديا وسياسيا. وقد نستفيذ أيضا من التجربة اليابانية والتجربة البريطانية في المحافظة على وحدة الشعب من خلال قيادته، والاستمرارية في الحداثة والتنمية وبدون صراعات على رمز وحدة البلاد. فالعائلة الامبراطورية رمز وحدة الشعب الياباني منذ اكثر من الفين وستمائة عام والعائلة المالكة البريطانية ايضا ومنذ قرون طويلة.
وقد نواجه مشكلة أخرى وهي أختيار نوعية النظام الاقتصادي، هل النظام الرأسمالي أم الاشتراكي، أم نجمع الأحسن في كل من النظامين. وهل نحتاج لمجتمع يكون فيها حقوق الفرد مكفولة في البيع والشراء؟ وهل سنحتاج لنظام تجاري يوفر البضاعة والخدمة بتنافس عادل ضمن الانظمة والقوانين؟ وهل سنشجع الأبداع بين شبابنا لخلق فئة من الطبقات الشبابية المتوسطة والتي تمتلك شركات ومصانع صغيرة؟ وهل سنحافظ على المنافسة الحرة المنضبطة لتطوير الإبداع؟ وكيف سيكون وضع الفقير في هذا العالم المتنافس؟
المثل الصيني يقول أعطني سمكة ستغذيني اليوم، وتشتري كرامتي، وعلمني صيد السمك ستغذني مدى الحياة، وتحافظ على أنتاجيتي وأنسانيتي وكرامتي. الأعانة هي أهانة للأنسان، فكرامة الأنسان لا تسمح بأن يكون عالة على الأخرين، وكرامة الوطن لا تسمح بأن يكون مواطن في حاجة للمساعدة من مواطن أخر. فالعمل كرامة للأنسان، ويوفر من خلاله حاجياته ويبدع، ويلعب دورا في أنتاجية بلده وتطور اقتصاده، ويقيه من الأقصاء الأجتماعي. والحل أن نطور القوى البشرية بالتعليم والتدريب المستمر للتعامل مع المعضلات من المهد الى اللحد. فنهيئ موارد بشرية متدربة ومرنة تستطيع أن تتحمل مختلف أنواع المسئولية مع تغيرات حاجة السوق والتطورات السريعة في تنوع البضائع والخدمات التكنولوجية.
يناقش البروفسور البريطاني أنطوني جدنز مدير كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، في كتابه الطريق الثالث، الحاجة لطريق آخر بعد ما تجاوزت التطورات التكنولوجية الحلول الاقتصادية والاجتماعية القديمة التي طرحتها الرأسمالية والأشتراكية. ويؤكد بأن الهدف العام لسياسة الطريق الثالث هو مساعدة المواطنين لاختيار طريقهم من خلال الثورة الكبيرة التي نعيشها اليوم بين العولمة والتحولات في الحياة الشخصية والعلاقة مع الطبيعة المحيطه بنا.
ويعتقد البروفيسور بأن هناك حاجة لخلق التوازن بين العدالة الاجتماعية والحرية الفردية ولتعريف جديد للحقوق والواجبات. ويؤكد بأن لا حقوق بلا واجبات ولا سلطة بلا ديمقراطية. بل بأن هناك ضرورة لإعادة مجتمع القيم والأخلاق والمحافظة على تناغمه مع الطبيعة. كما يصر على ضرورة معرفة كيفية التعامل مع العولمة والتطورات العلمية والتكنولوجية المرافقة لها، وأهمية فلسفة المحافظة على الثقافة المجتمعية والتقاليد المنظمة، بالإضافة لأحترم الإجماع العالمي وعدم الشذوذ عنه. وضرورة الاهتمام بتوفير الخدمات الاجتماعية من خلال تأمين الصحي للمواطنين وضمان للتعليم وإصابات العمل والبطالة والتقاعد.
وقد أظهرت الاستطلاعات الغربية بأن هناك رضى شعبي بالنظام الديمقراطي اللبرالي وبنسبة 90% بين الشعب الأمريكي والأوروبي، مع أن الجميع يطالب أيضا بضرورة تطوير الديمقراطية. فقد بين الاستفتاء الشعبي بالانخفاض المتزايد في ثقة الشعوب بالبرلمانات، فقد نزلت شعبية الكونجرس الأمريكي في الشهر الماضي لحوالي الأربعة عشرة في المائة. فقد تحولت البرلمانات لمجالس أيديولوجية، وتطالب الشعوب بأن تكون مواقع للإنجازات الاقتصادية والاجتماعية. ويقترح البروفسور جدنز رؤية مستقبلية للتعامل مع التحديات القادمة، فيؤكد على ضرورة تالف الحكومات مع عالم العولمة الجديد والتحولات الجديدة في تكنولوجية الاعلام والسياسة. وأن تجدد شرعية السلطة على اسس ايجابية، وديمقرطة الديمقراطية باللامركزية، وضرورة ربط قرارات الحكومات ليس فقط بالوضع المحلي بل أيضا بالأوضاع العالمية.
ويقترح البروفيسور بالحاجة لزيادة الشفافية وتحديث الدساتير والانظمة، وزيادة كفائة الحكومة وإهتمامها بالتخطيط وتقليل مسؤلياتها التنفيذية. وضرورة نقل قطاع الخدمات للقطاع الخاص مع تنظيم تأمين الخدمات الاجتماعية في الرعاية الطبية والتعليمية والتقاعد وحالات البطالة المؤقتة. كما يجب ألا يحرم أية مواطن من هذا التأمين. وقد أقترح البروفيسور بالحاجة للتفكير المبدع لكي نخترع مفهوم جديد للحكومة ومسؤلياتها، وطرق تقوية كفاءتها أمام سلطة السوق، وكيفية تطوير التواصل المباشر بين الحكومة وافراد الشعب، وذلك بنوع من الديمقراطية المباشرة، والاستفتاء الالكتروني لدراسة القرارات الحاسمة مع الشعب. وأكد على الحاجة لديمقرطة القضاء ليتوفر بالمحاكم محلفين من الشعب، لخلق تناغم جميل بين الحكومة والشعب، وضرورة مشاركة المواطنين في مناقشات البرلمان وقرارات الحكومة من خلال الانترنت. وتدريب المواطن على المناقشة والتعامل مع المعضلات المجتمعية المعقدة، وأعطاء المؤسسات الشعبية والمحلية دورا للمشاركة في أيجاد الصيغ المناسبة للتعامل مع المعضلات، والعمل معها للتعامل مع التحديات البيئية والجرائم المجتمعية.
كما ناقش البروفيسور تحديات العولمة. فقد بدأت تختفي الحدود بين الدول بوسائل الإعلام والانترنت، وبرزت الاتحادات الاقتصادية الكبيرة كالاتحاد الأوربي والتجمعات الاقتصادية الأسيوية والإفريقية. كما بداءت تبرز على السطح ثقافة فسيفسائية ملونة جميلة في الولايات المتحدة، وأخذت تنتشر من خلال إعلام التلفزيون والإذاعة والصحافة والكتب والأفلام السينمائية والانترنت ولمختلف بقاع الأرض. وينتقد البروفيسور العولمة بأنها كانت السبب لتباين الدخل. فيوضح بأن حوالي 60% من زيادة الدخل في الولايات المتحدة في التسعينيات كانت من نصيب 1% من الشعب الأمريكي، بينما بقى دخل 25% من فقراء الحال كما هي خلال الثلاثين سنة الماضية. كما أثبتت حرب العراق بأن زمن الامبرياليات قد انتهى ومفهوم القوى العظمى قد بهت وانتصار الحروب قد أصبحت خرافة أسطورية.
والسؤال الملح هل سيعمل الشعب العربي لاختيار طريقه الثالث، لينمي اقتصاده، ويطور مجتمعاته، ويحافظ على قيمه وتقاليده وثقافته وأخلاقياته، ليستطيع التعامل مع تحديات واقع العولمة الجديد، مع المحافظة على السلم والأمن والأمان؟

سفير مملكة البحرين باليابان

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلافتسبب ملاحقة قانونية