هل يمكن القول ان الازمة الاقتصادية التي تضرب امريكا وتهز العالم من حولها اليوم هي مجرد ازمة ارقام وبنوك وقروض يمكن ان تعالج من خلال سياقات اقتصادية محفوظة في علم الاقتصاد ام ان الامر في حيقيته يتجاوز ذلك الى ماهو ابعد اي الى حدود التماس مع مرحلة افول الامبراطورية وما بات يعرف بالثمن الواجب دفعه في مقابل هذا الاتساع الكوني لمصالح الولايات المتحدة الامريكية؟
تساؤل عريض في حاجة الى مناقشات مستفيضة من قبل اصحاب القرار والافكار حول العالم ذلك لان خطورة المشهد لا تنسحب على امريكا فحسب بل تمتد الى بقية ارجاء الكون حيث بات من الحقيقي وليس المجازي انه اذا بردت امريكا واصابها الزكام تعرض العالم لحالة من العطس الشديد ما يعكس مدى تغلغل النفوذ الاقتصادي وليس السياسي فقط لواشنطن حول بقية ارجاء البسيطة.
المقطوع به ان الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة هو الذي يشكل في واقع الامر صمام الامان فهل كان الاحتياطي الامريكي في عهد بوش يوفر بالفعل مثل هذا الاستقرار وتلك الدرجة من الامان؟
الجواب عند quot; ستيف اتش هانكي quot; استاذ علم الاقتصاد التطبيقي في جامعة جونز هوبكنز في بالتيمور والمستشار السابق لعدد من رؤساء دول العالم وفيه يرى ان البنك الفيدرالي الامريكي و الذي خلق المشكلة المالية التي نعاني منها واذا لم يكن ما فعله سيئا بما فيه الكفاية فقد تنطح وزير الخزانة دور القائد المشجع لبكين طالبا منها رفع قيمة اليوان الصيني مقابل الدولار وبينما يعمل كل ما في وسعه لتخفيض قيمة العملة الامريكية فان بولسون يدعونا الى البقاء هادئين وواثقين يقول ستيف هانكي ـ بدعوى ان العوامل الاقتصادية ما زالت سليمة،انه بذلك يذكرني بالمتعامل في السندات المالية الذي يقدم خدمة غالية لشركائه عن طريق كونه مخطئا طوال الوقت وبحسب الرؤية التحليلة للبروفيسور الذي يعد احد كبار الزملاء في معهد كيتو في واشنطن فان الازمة المالية الامريكية الحالية تتبع النظام والنمط الكلاسيكي ففي عام 2002 صدر عن المحافظ برنانكي صفارات انذار تقول بان التباطؤ الاقتصادي يهدد الاقتصادي الامريكي وقد اقنع زملاءه اعضاء المجلس بذلك الخطر وكما عبر عن ذلك جرينسبان quot; اننا نواجه تحديات جديدة في الحفاظ على استقرار الاسعار وبشكل خاص بتجنب هبوط التضخم الى مستويات منخفضة اكثر من اللازم quot; ففي مواجهة احتمال انكماش اقتصاد اصاب الاحتياطي الفيدرالي الذعر وما ان جاء شهر يوليو 2003 حتى اصبح معدل نسب الاموال الفيدرالية بمستوى قياسي منخفض باقل من 1% حيث ظلت في ذلك المستوى المنخفض على امتداد سنة كاملة وقد ادى ذلك الى وقوع ام جميع دورات السيولة الحديثة وكما توقع اعضاء المدرسة النمساوية انتهى انتعاش التسهيلات المالية نهاية سيئة وحفاظا على النمط الذي داب على اتباعه فقد اصاب الذعر الاحتياطي الفيدرالي مرة اخرى بحيث اقدم على تخفيض نسب الفائدة واغراق الاقتصاد بالسيولة.
هل كان التضخم شيئا غير متوقع؟ بالحسابات الاقتصادية ليس عجيبا ان نرى توقعات التضخم في ارتفاع وليس غريبا ايضا ان يظل الدولار عليلا وهو الامر الذي يجعل من رسالة وزير الخزانة بولسون الى بكين رسالة شاذة وبالاخص انها مبنية على معطيات غير صحيحة قدمها عدد كبير من الاقتصاديين المرموقين فقد اعرب quot;مارتن فلدستاينquot; برفيسور الاقتصاد في جامة هارفارد عن وجهة نظره بان ميزان التجارة الثنائي بين الولايات المتحدة والصين يتقرر نتيجة لسعر تبادل العملة بين اليوان والدولار ولذلك وحتى يمكن تخفيض فائض التجارة لصالح الصين مع الولايات المتحدة فانه يدعو الى رفع قيمة اليوان.
ويرى ستيف هانكي quot; ان تلك النصيحة مجرد كلام فارغ فالموازين التجارية تتقرر نتيجة لقدرات التوفير الوطنية وليس نتيجة لاسعار الصرف وان فائض التوفير الصيني وعجز التوفير الامريكي يقرران الى حد كبير اختلال التوازن التجاري بيننا وبين الصين ويتوجب على وزارة الخزانة الامريكية ان تكون قد تعلمت هذا الدرس بعد سنوات من ارغام اليابانيين على رفع قيمة الين الامر الذي ادى الى النيل من استقرار الاقتصاد الياباني وبدون اعطاء اية فائدة للتوازنات التجارية والى ان تتخلى الولايات المتحدة عن سياستها القائمة على ضعف الدولار فان التضخم سوف يكون هو سيد الموقف ولعل التساؤل الان وهنا هل ادرك بوش ورجاله خطاهم وهل لهذا جاء مشروع بوش لانقاذ الاقتصاد الامريكي والى اي مدى يمكن ان يكون حلا واقعيا قابل للتنفيذ على ارض الواقع؟
تحت عنوان بوش والازمة الاقتصادية الامريكية اولها حرب واخرها كارثة quot; تكتب الميدل ايست اون لاين متسائلة quot; ما الذي جلبه الرئيس الامريكي على نفسه وبلاده والعالم؟ وهل ثمة في رئاسته ما يجدر تذكره بعطف؟
والشاهد ان الازمة المالية التي تخيم على سماوات امريكا تلقى بالكثير من الشكوك على تصريحاته واعلاناته سيما وانه لطالما تصدي لمنتقديه متسلحا بمتانة الاقتصاد الامريكي.
وليس خافيا على احد ان قد بدا ولايته الاولى بحرب على جبهتين في افغانستان والعراق تحولتا الى مستنقع لم يجد سبيلا حتى الان للخروج منه وها هي ولايته الثانية تنتهي بكارثة اقتصادية لا تؤثر على اركان الاقتصاد الامريكي وحده بل تمتد الى بقية اقتصاديات العالم وعندما حان الوقت قبل بضعة اشهر لاستخلاص اولى محصلات رئاسة بوش طرحت تساؤلات جدية حول الوضع الذي سيترك بوش فيه الاقتصاد الامريكي لخلفه، ولو ان هذه التساؤلات لا تقارن بمستوى الهلع الحالي.
وكان بوش قبل سنة قد اعرب عن تفاؤله فاكد ان quot; المعطيات الجوهرية لاقتصادنا متينة quot; معترفا في الوقت نفسه بان ازمة القطاع العقاري يثير بلبلة اما الان فان الولايات المتحدة باتت تواجه خطر انكماش اقتصادي فيما وصلت نسبة البطالة في اغسطس اب الى اعلى مستوياتها منذ خمس سنوات.
وازاء التهمة الملقاه على عاتقه كان بوش يحاول تقديم خطة عملاقة تتراوح تكلفتها ما بين ال 700 مليار الى التريليون دولار لانقاذ الاوضاع الاقتصادية فماذا عن ابعاد تلك الخطة؟
في حديقة البيت الابيض اعلن الرئيس بوش ان الوقت الراهن حاسم لمواجهة الازمة المالية مشيرا الى غياب الثقة والمخاطر المحدقة بالاستهلاك والنشاط الاقتصادي مضيفا بالنتيجة عينا ان نتحرك الان للحفاظ على صحة اقتصاد بلدنا من مخاطر كبيرة وفي التصريحات ذاتها اشار بوش الى ان هذه الاجراءات ستتطلب منا دفع مبالغ طائلة من اموال دافعي الضرائب ومؤكدا ان هذا العمل ينطوي على مخاطر داعيا مواطنيه الى الثقة باقتصادهم قائلا quot; انه على المدى الطويل لدى الامريكيين سبب وجيه للثقة بقوة اقتصادنا هذا البلد هو المكان الافضل في العالم للاستثمار quot;.لكن هل ستنقذ تلك الاجراءات الميزانية الامركية في ظل quot;حالة القصفquot; التي تتعرض لها؟

يرجع مصطلح quot;قصف الميزانية الامريكية quot;إلى المفكر الفرنسي الكبير quot;باسكال بونيفاسquot; مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس والذي يشير إلى أن ميزانية الولايات المتحدة الأمريكية تعرضت مؤخرا لما يشبه القصف الجوي الصاروخي الذي لا يصد ولا يرد... ماذا يعني بونيفاس بهذا الحديث؟
يقول الرجل إن مطالبة وزارة الدفاع الأمريكية ب415 مليار دولار من ميزانية العام المالي 2009 تجعل أي ميزانية دفاع في أي مكان أخر من العالم الضخم الذي زاد بمقدار 5% عن الميزانية العسكرية للعام 2008 من المقرر أن ينفق على العمليات والأنشطة العادية التي تمارسها المؤسسة العسكرية الأمريكية أي أن حربي العراق وأفغانستان لا تندرجان تحت بنود هذه الميزانية.
ويرى المفكر الفرنسي أن الأموال التي تخصصها الولايات المتحدة لأمور الدفاع اليوم تتجاوز ما خصصته أثناء الحرب ضد هتلر أو أثناء الحرب الباردة ويبدو أن إدارة بوش ترى أن التهديدات العسكرية اليوم اشد خطرا أما الحديث عن مكاسب السلام المزعومة التي كان من المفترض أن تأتي بسقوط سور برلين فلم نعد نسمعه أو ما يشبهه ومع ذلك إذا ما نظرنا إلى حجم الإنفاق العسكري الهائل اليوم فلا نملك إلا أن نتساءل ما إذا كان ذلك يتفق مع العقل والمنطق فربما يمر اقتصاد الولايات المتحدة اليوم بحالة من الركود هذا فضلا عن السحب القاتمة التي تحيط بأنظمة التقاعد والرعاية الصحية الأمر الذي يجعل الإنفاق العسكري بهذا الحجم بعيدا كل البعد عن المنطق حتى على الصعيد الاستراتيجي وتنفرد الولايات المتحدة بحوالي 50% من إجمالي الإنفاق العسكري على مستوى العالم وهو الحد الذي لم تبلغه أي دولة منفردة طيلة التاريخ المعاصر ولم تقترب منه حتى والعجيب انه في وسط هذه ألازمة الاقتصادية الخانقة فان بعض الأصوات في الولايات المتحدة تنادي بزيارة اكبر في الإنفاق العسكري فوزارة الدفاع على سبيل المثال ترغب في توسعة قوات العمليات الخاصة التابعة لسلاح البحرية غير أن القليل من زعماء الولايات المتحدة الديمقراطيين والجمهوريين على السواء يتساءلون ما إذا كانت القوة العسكرية هي السبيل الأفضل لعلاج القضايا الأمنية والحقيقة أن الولايات المتحدة باعتمادها الأساسي على الحلول العسكرية للمشاكل السياسية تعمل على تفاقم التهديدات التي تواجهها بدلا من علاجها.
ويخلص بونيفاس إلى القول بأنه لابد من أن ندرك أن المخاطر التي تواجهها الولايات المتحدة اليوم لا تصدر عن دولة بالتحديد بل أنها نابعة من عناصر لا تنتمي لدولة بعينها وهذا يعني أن الأسلحة النووية وحاملات الطائرات لن تجدي نفعا في مواجهة مثل هذا التهديد وقد يكون من الأوفر والأجدى بالنسبة للولايات المتحدة أن تعمل على حل الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني والعودة إلى الأساليب التعددية واحترام المبادئ الأخلاقية التي توصي الآخرين بالالتزام بها وبغير تبني مثل هذه الاستراتيجيات فلن يتسنى للولايات المتحدة أن تبدأ في ضغط ميزانية وزارة الدفاع المتضخمة والالتفات إلى المحن والبلايا التي تواجهها في الدال وفي هذا تضحى الميزانية الأمريكية في مرمى القصف الأمريكي وتزداد المأساة الاقتصادية بما يجر الوبال وهواجس الركود والتضخم على العالم برمته.
ويبقى قبل الانصراف تساؤل ماذا عن تكلفة المظلة الأمنية التي تهدر الولايات المتحدة الأمريكية ثروتها عليها. وهل من مردود واضح لتلك التكلفة تساوي ما ينفق أم أن الإنفاق يذهب هباء ولا يكلف الإمبراطورية سوى فرصتها في قائمة الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ؟
الإجابة على التساؤل السابق جاءت على لسان المؤرخ الأمريكي وأستاذ التاريخ الأشهر في جامعة ييل الأمريكية الشهيرة بول كيندي والذي يذهب إلى أن الإنفاق أمريكا في حربيها الدائرتين حاليا في أفغانستان والعراق أموال طائلة لا يصب إلا في خانة الحلفاء العرب والأوروبيون والآسيويين ذلك أن نسبة 6% من إجمال الناتج المحلي الأمريكي قد أنفقت على الميزانيات الدفاعية قياسا إلى إنفاق أوربا كليها لنسبة تتراوح بين 2-3 % فحسب من إجمالي ناتجها المحلي على ميزانياتها الدفاعية ونسبة 1% فحسب أنفقتها اليابان في المجال نفسه.
وهكذا يقع على دافع الضريبة الأمريكي عبء مالي غير متناسب جراء تحمله لنفقة الميزانية الدفاعية العامة في حين ازداد إنفاق الدول التي تشملها مظلة الحماية الدفاعية الأمريكية في المجالات الأخرى مثل البرامج الاجتماعية والسلع الاستهلاكية بل حتى عمد بعضها إلى زيادة حجم مدخراته، في وقت غرقت فيه الولايات المتحدة في لجة ديونها وهذا هو مصدر الشكوى مما رأى فيه الكثيرون ضربا من المجانية الدفاعية التي تتمتع بها الدول الحليفة لواشنطن وعند بول كيندي أن الولايات المتحدة تتكفل منفردة اليوم مثلما كان عليه حال كل من الإمبراطوريتين السابقتين الرومانية والبريطانية بتوفير السلعة الأمنية العالمية.... لكن ماذا لو انفرط يوما زمام العقد بين الدولة الوحيدة في العالم الحامية وتلك الدول المحمية؟.
ربما بدا هذا التساؤل يثار من جراء تداعيات مثل تضخم فوائض ثروات الدول الأجنبية وارتفاع تكلفة الحصول على المواد الخام المستوردة لاسيما النفط والضعف الذي طرا على بنوك وول ستريت ومؤسساتها المالية التي كانت من اكبر البنوك والمؤسسات المالية.
والمؤكد انه إذا كانت الدولة الوحيدة المعنية بتوفير هذه المظلة تمر بمرحلة ضعف واضطرابات اليوم فان المؤكد أن الاضطرابات نفسها ستطال الدول القابعة تحت كنفها ومظلتها ما يعني أن العالم عرضه بالفعل لاضطرابات قد تقود إلى انهيار اقتصادي عالمي.
كاتب مصري
[email protected]