(1)
فى 16 يناير 1991 أعلن الرئيس جورج بوش فى خطاب إلى الشعب الأمريكى والعالم عن قيام نظام عالمى جديد على أنقاض نظام القطبية الثنائية، وفى خطاب حالة الأتحاد يوم 29 يناير 1992 أعلن الرئيس جورج بوش عن انتصار الولايات المتحدة بشكل نهائى فى الحرب الباردة. وإذا كانت قمة يالطا عام 1945 إعلانا عن بروز القطبية الثنائية فإن قمة مالطا 1989 كانت إعلانا عن سقوط هذا النظام وتفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم كقطب وحيد، أما قمة العشرين فى واشنطن فى 14 نوفمبر 2008 كانت إعلانا عن دخول النظام الدولى مرحلة الضبابية. ورغم أن النظام العالمى الجديد كان واضحا منذ سقوط الإتحاد السوفيتى، وهو النظام التى تتصدر فيه أمريكا قيادة العالم إلا أن أغلب المحللين فى المنطقة العربية رفضوا الاعتراف بما هو كائن فعلا وكانت الجملة الأكثر ترددا فى أدبياتهم، أن النظام الدولى فى حالة سيولة. لا اعرف ماذا سيقولون عن حالة السيولة والضبابية القادمة فى النظام الدولى، فإذا كان الوضع الواضح كان ضبابيا وسائلا أمام عيونهم فكيف سيكون وصف الوضع السائل والضبابى وغير الواضح بالفعل.
(2)
أستمر نظام القطب الواحد بقيادة أمريكا حوالى عقدين من الزمن، وربما تكون هناك فترة إنتقالية لمدة عقد آخر قبل أن يظهر نظام دولى جديد، وخلال هذه الفترة ستتصدر امريكا القيادة أيضا ولكن سيتراجع ثقلها النسبى عاما بعد عام.
كان ظهور نظام القطبية الثنائية نتاجا للحرب العالمية الثانية، أما نظام القطب الواحد فكان بدوره نتيجة لإنتهاء الحرب الباردة بانتصار المعسكر الغربى بقيادة أمريكا، أما نظام ما بعد القطب الواحد فلا نعرف سببا واحدا لظهوره لأنه لم يولد بعد، ولكن هناك ارهاصات تقول إنه فى طريقه للظهور. وحيث أن هذا النظام لم يولد بعد فربما يكون ميلاده نتيجة لصعود دول أخرى اقتصاديا كمنافس قوى لأمريكا على الساحة الدولية، وربما يكون نتيجة للأزمة المالية الراهنة التى لا يعرف أحد كيف ستنتهى وماذا سيكون شكل العالم بعدها، وربما سيكون نتيجة لكارثة دولية لم تحدث بعد ويتوقع حدوثها سواء كانت كارثة اقتصادية عبر إنهيار كامل للنظام الأقتصادى الدولى، أو سياسية عبر إندلاع حرب ساخنة أخرى، وربما سيتبلور نظام متعدد الأقطاب سلميا وتدريجيا من وحى العولمة ويكون هذا النظام الجديد هو من منتجات العولمة التى أثرت بشكل كبير فى إعادة توزيع الثروة عالميا وما يترتب على ذلك من توزيع للنفوذ الدولى، وربما يتجاوز النظام الدولى القادم نظام القطبية الثنائية والقطب الواحد واللاقطبية إلى نظام المحاور الدولية، حيث تشكل مجموعات من الدول محاور متوافقة تدعم بها مصالحها فى مواجهة الطرف الآخر، وربما يدخل العالم فى مرحلة إنتقالية من الفوضى الدولية تتصدر المشهد الدولى فيها المليشيات التى تسيطر على الدول والعصابات التى تهدد المجالين البحرى والجوى الدوليين، وربما يشهد النظام الدولى الجديد نهاية ما يعرف بالغرب التقليدى وينقسم الغرب إلى أكثر من غرب، إنقسام ينهى العلاقة الاستراتيجية بين اوروبا وأمريكا، ولكن من المؤكد أن اسيا سيكون لها دور كبير فى النظام الدولى القادم.
نظام القطبية الثنائية كان قائما على الإستقطاب الدولى أما نظام القطب الواحد فكان من معالمه محاولة تشكيل العالم على نمط الديموقراطية الأمريكية، ولهذا كانت محاولة نشر الديمواقراطية أحد أدوات هذا النظام، فنشر الديموقراطية لم يكن رسالة أمريكية فحسب ولكن كان أحد أدواتها الهامة لدعم مصالحها حول العالم وخاصة بعد 11 سبتمبر، ولكن ربما يكون البحث عن مناطق نفوذ أقتصادى هى سمة النظام الدولى القادم.
(3)
يجب التنبيه أيضا رغم أن العديد من مراكز الدراسات وأجهزة المخابرات بدأت بالفعل تتناول شكل هذا النظام القادم عبر تحليلات وسيناريوهات متعددة إلا أن سمة quot; عدم اليقينquot; تظل هى السمة الأبرز فى معظم هذه الدراسات، ولهذا قلنا اننا فى المرحلة الضبابية، وهذه رسالة أخرى للمنطقة العربية كى لا يتورط محللوها فى سيناريوهات يقينية عن المستقبل رغم إنهم كانوا طرفا هامشيا فى نظام الثنائية القطبية والاحادية القطبية، وأعتقد إنهم لن يكون لهم دور يذكر فى النظام القادم، فحتى البترول الذى يشكل المصدرا الرئيسي لدخلهم وثرواتهم ولاهتمام العالم بهم من المتوقع أن يتراجع دوره بشكل كبير على أكثر تقدير بعد عقدين من الزمن.
(4)
مما لا شك فيه أن دور المؤسسات الدولية سواء الإقتصادية أو السياسية قد استنفد الغرض منه، فهذه المؤسسات كانت نتاج توافق ما بعد الحرب العالمية الثانية بين الحلفاء الغربيين بالدرجة الأولى، وحاول القطب الاوحد إستخدامها لدعم نفوذه فى فترة الأحادية القطبية، ولكن عمليا فشلت هذه المؤسسات فى أن تعكس بوضوح زخم العولمة ومراكز الثقل الجديدة التى أفرزتها.
بالنسبة للمؤسسات الاقتصادية الدولية التى نتجت عن بريتون وودز أثبتت الأزمة الاقتصادية الأخيرة عجزها فى ملاحقة التطورات الحديثة فى النظام الاقتصادى الدولى، كما أن هذه المؤسسات ذاتها كانت نتيجة لاوضاع اقتصادية وسياسية اوشكت على الإنتهاء، فمن المعروف ان الولايات المتحدة علقت موافقتها على منظمة التجارة العالمية منذ عام 1944 حتى نهاية دورة اورجوى عام 1992، وكانت موافقة الولايات المتحدة تحديدا على مفاوضات دورة اورجوى لكى تستطيع أن تدخل تجارة الخدمات فى العلاقات التجارية الدولية نظرا لتميز الولايات المتحدة الكبير فى صناعة الخدمات وخاصة الخدمات المالية وخدمات التكنولوجيا الالكترونية المتقدمة، ولكن إستفادة الولايات المتحدة تراجع بشدة واصبحت العولمة عبئا عليهاحيث إنها تجلب لها عجزا متزايدا فى الميزان التجارى، وإذا تراجعت ثقة العالم فى النظام المالى الأمريكى فستكون العولمة عبئا كبيرا على أمريكا فى المستقبل ستؤدى إلى إستنزاف أصولها لصالح أطراف خارجية، علاوة على أن تعثر مفاوضات الدوحة القى بثقله السلبى على منظمة التجارة العالمية.
فيما يتعلق بصندوق النقد والبنك الدولى فكلاهما يحتاج إلى إعادة هيكلة كاملة بما فى ذلك تغيير نظام الحصص وفتح العضوية للكيانات الاقتصادية الجديدة بخلاف الدول، وأيضا تغيير طريقة التصويت والاهداف لكى ما تتماشى مع الوضع القادم، وبات ملحا أهمية إنشاء مؤسسة رابعة تتعلق بالنظام المالى والرقابة المالية الدولية حيث أن المؤسسات الحالية لا تفى بالغرض.
ومن ناحية المؤسسات السياسية كالأمم المتحدة فهى بدورها كانت عاجزة عن مسايرة العولمة وبالطبع لن تصلح لنظام عالمى جديد، فمفهوم سيادة الدول الذى شكل أساس ميثاق الأمم المتحدة يحتاج إلى تعديل كامل، وحتى تعريف الكيانات السياسية التى تتمتع بعضوية المنظمة الدولية يحتاج هو الآخر إلى تعديل لتدخل فيه الشركات العملاقة ومنظمات المجتمع المدنى وفقا لمعايير محددة، علاوة على أن مجلس الأمن لم يعد يعكس الوضع الدولى الراهن ولا القادم، فمن غير المعقول أن تحتكر اوروبا ثلاثة مقاعد ثابتة فى مجلس الامن فى الوقت الذى تحرم فيه اليابان والهند والبرازيل من هذه العضوية، أما مسالة إدارة الأمم المتحدة على أسس ديموقراطية التصويت(صوت لكل عضو) فقد أثبتت فشلها الذريع فى الجمعية العامة للأمم المتحدة التى يسيطر عليها الغوغائية ومن ثم عجزت عن إتخاذ قرار جاد.
باختصار ميثاق الأمم المتحدة كله يحتاج إلى تغيير وربما يكون ميلاد منظمة جديدة تعكس التغيرات الراهنة والتحديات المستقبلية مسألة تحتاج إلى تفكير جدى.
ما اود أن اقوله فى تقديرى أن العالم يتجه للدخول فى مرحلة ضبابية، وهذه المرحلة الإنتقالية بين نظامين دوليين تكون مرحلة إضطرابات وعدم إستقرار دولى وتفشى الفوضى فى بعض الجيوب حول العالم، وتسارع سباق التسلح التقليدى والنووى وربما يؤدى ذلك إلى ظهور قوى نووية أخرى فى عدة دول، وظهور العصابات والقراصنة، وعدم الإهتمام بحقوق الإنسان ولا بأوضاع الأقليات، وتنامى الحروب الأهلية، وتراجع القدرة على التدخلات الدولية فى القضايا والحروب الإقليمة والداخلية، وتحاشى الدول الكبرى فى التدخل إلا ما يمس مصالحها بشكل مباشر، أى أن التعاون الدولى بشكل عام يكون عند حده الأدنى فى الفترات الإنتقالية.
العالم مقبل على مرحلة صعبة، وعلى هؤلاء الذين كانوا يشتكون ويندبون ويولولوون من نظام القطب الواحد أن يتحملوا فاتورة المرحلة الضبابية أو حتى النظام المتعدد الأقطاب أو سياسات المحاور الدولية... وسيترحمون وقتها على نظام القطب الواحد.
وللحديث بقية.
[email protected]