كتاب Bertrand Russell quot;العلم والدينquot; طبع لأول مرة في فرنسا عام 1971، وهو مترجم عن الإنكليزية،وأعيد طبعه مرات عديدة كان آخرها في عام 2000. يحتوي الكتاب على عشر محاور رئيسية، اخترنا منها ما كتبه عن علاقة العلم مع الدين. نذكر هنا أن من كتابات quot;راسلquot; الأخرى: (الزواج والحب، تاريخ الأفكار في القرن التاسع عشر، تاريخ الفلسفة الغربية، تاريخ أفكاري الفلسفية، مفهومي للعالم).
يقول quot;راسلquot; إن العلم و الدين هما وجهان للحياة الاجتماعية، والدين كان له أهمية كبيرة ولفترة طويلة أكثر من قدرتنا على العودة إليه في تاريخ النفس الإنسانية، بينما العلم، وبعد وجود متقطع ومتدرج عند اليونان والعرب، أخذ أهميته بشكل مفاجئ في القرن السادس عشر، وقد استطاع منذ هذا القرن تشكيل وبشكل دائم أفكارنا و مؤسساتنا التي نعيش بينها اليوم. بين العلم والدين امتد صراع طويل، وقد خرج منه العلم وحتى السنوات الأخيرة منتصرا.
ولكن بعد قدوم، في روسيا و ألمانيا، أديان جديدة مزودة بوسائل جديدة (قدمها تطور العلم) للتبشير، وضعت نتيجة الصراع قيد التدقيق كما كان الوضع في بداية العصر العلمي، وجعل من الممكن إعادة اختبار ميدان الصراع و تاريخية الحرب التي قام بها الدين التقليدي ضد المعرفة العلمية.
العلم يهدف للكشف من خلال وسائل الملاحظة والبرهان المرتكزة على أحداث خاصة في العالم، ثم بواسطة القوانين يربط الأحداث الواحد بالآخر، وبعد ذلك (إذا استطاع) يتنبأ بالأحداث المستقبلية. هذا الجانب النظري للعلم مرتبط بالتقنيات العلمية التي تستخدمها المعرفة العلمية من أجل إنتاج ظروف لراحة الإنسان والتي كانت غير قابلة للتحقق من قبل، أو أنها كانت مكلفة جدا في عصور ما قبل ـ علمية. هذا الجانب الأخير يعطي أهمية كبيرة للعلم حتى في عيون الذين لا يؤمنون به.
أما الدين، ومن وجهة نظر اجتماعية، هو ظاهرة أكثر تعقيدا من العلم. فكل واحد من الأديان التاريخية الكبيرة يشكل ثلاثة جوانب : كنيسة (أو مكان للعبادة)، عقيدة، قانون أو (شرعة) للأخلاق الفردية. الأهمية النسبية لهذه العناصر تغيرت كثيرا عبر الزمان والمكان. فالأديان القديمة عند اليونان و روما، قبل أن تصبح أخلاقية بواسطة quot;الرواقيينquot; Stoiuml;ciens، (وهم نسبة إلى الرواق، أو المكان الذي كان يجتمع فيه تلاميذ زينون الرواقي، وتقوم فلسفته على إرجاع حوادث الطبيعة إلى العقل الكليquot;اللهquot;، وهذه الحوادث هي بقدرة العقل الكلي، والرواقية مدرسة سورية قديمة)، لم يكن لديها أشياء كبيرة تقولها فيما يتعلق بالأخلاق الفردية. ومع الإسلام مكان العبادة كان دائما له أهمية قليلة بالنسبة للسلطة الزمنية، وفي البروتستانتية الحديثة حدث تغير في عقيدة المتشددين أو أصبح لديهم نزعة للتغير.
مع ذلك، هذه العناصر وبالرغم من حجمها المختلف والمتغير، إلا أنها ضرورية للدين كظاهرة اجتماعية، وهذا هو الجانب الرئيسي عند الدين في صراعه مع العلم. والدين (أي دين) والذي يتجنب دائما التأكيدات التي يبرهنها العلم، يمكن أن يعيش بشكل هادئ في الأزمان والعصور الأكثر علمية. أما العقائد كما يراها Bertrand Russell فهي المصدر الفكري للصراع بين العلم والدين، ولكن مقاومة فظاظة هذه العقائد كانت واجبة عندما ارتبطت بمكان العبادة ومع التشريعات الأخلاقية. هذا الارتباط بمكان العبادة وضع في حالة من الشك هذه العقائد وأضعف من سلطة رجال الدين. من هنا يمكن القول أن رجال الدين كما رجال السياسة لديهم الحق في الخوف من الثورات التي فجرها رجال العلم.
يقول Bertrand Russell، في كتابنا quot;العلم والدين quot; لا نشتغل على العلم بشكل عام ولا على الدين بشكل عام، ولكن نشتغل على نقاط شكلت ميدان الصراع، أو مازالت تشكل ميدان للصراع حتى الوقت الحالي. فيما يتعلق بالمسيحية، هذه الصراعات كانت وفق شكلين. فنحن، على سبيل المثال، نجد في الكتاب المقدس نصا يؤكد عملا ما (الأرنب يجتر). مثل هذه التأكيدات وعندما دحضها العلم من خلال المراقبة والملاحظة، أصبحت عقبة أمام الذين يؤمنون أو يعتقدون بالكتاب أو (الكتب)المقدسة، وأكثر من ذلك، أصبح هناك شك بأن كل كلمة في الكتب المقدسة هي من عند الله.
ولكن فيما يتعلق بالكتاب المقدس أصبح الصراع أكثر جدية عندما وضع العلم هذا الكتاب في حالة من الشك. بشكل عام، الاختلافات بين العلم والدين كانت شكلا أولا للصراع، ولكنها انتقلت إلى ميادين متعددة تعتبر جوهرا بالنسبة للعقيدة المسيحية. في عصرنا، هناك الكثير من المؤمنين المسيحيين يرون أن العقيدة كما كانت في العصور الوسطى لم تعد نافعة بل تشكل عقبة أمام الحياة الدينية. ويرى Bertrand Russell أنه إذا أردنا فهم المقاومة التي تلقاها العلم، علينا التغلغل بخيالنا داخل نظام الأفكار التي جعلت من هذه المقاومة منطقية.
فلنتخيل وكما يقول Bertrand Russell أن إنسانا طلب من الكاهن لماذا يجب عليه ألا يرتكب جرما. الإجابة:quot;لأنك ستعدمquot; تظهر أنها كافية ومرضية، في نفس الوقت، لأن الإعدام بحاجة إلى مبرر، ولأن الطرق البوليسية لم تكن أكيدة بشكل كبير أو لها تأثير على المجرمين الهاربين من العدالة. ولكن هناك إجابة والتي، قبل قدوم العلم، كانت كافية بالنسبة للجميع: القتل هو جريمة ممنوعة من خلال quot;الوصايا العشرquot; التي أوحى الله بها على موسى في جبل سيناء. فالمجرم الذي يهرب من العدالة الأرضية لن يهرب من الغضب الإلهي. بالمقابل، هذه الحجة ترتكز على سلطة الكتاب المقدس، والذي يجب في هذه الحالة أن نأخذه بكليته. ولكن إذا الكتاب المقدس قال بأن الأرض لا تدور، فإنه علينا أن نصدقه أيضا، لأن إذا كنا لا نريد تصديقه فيجب ألا نصدقه بكليته أيضا، وفي هذه الحال نكون قد شجعنا الجريمة. طبعا هذا البرهان هو عبثي ولم يكن له إلا القليل من المناصرين.
إن quot;الوحدة المنطقيةquot; هي في نفس الوقت قوة وضعف. إنها قوة لأنها تضمن أن أي شخص يقبل مرحلة من البرهان عليه أن يقبل كل المراحل التالية؛ وإنها ضعيفة لأن أي شخص يرفض إحدى مراحل البرهان فإن عليه رفض جميع المراحل التالية أو على الأقل جزءا منها. وبالنسبة للكنيسة في صراعها مع العلم، فقد أظهرت في نفس الوقت القوة والضعف الناتجين عن التماسك المنطقي لمعتقداتها. ولكن الشكل الذي وصل فيه العلم إلى قناعاته يختلف كليا عن علم اللاهوت القروسطي. فالتجربة أظهرت أنه من الخطر الانطلاق من مبادئ عامة أو التصرف بواسطة الإسقاط أو الاستقراء، بداية لأن المبادئ يمكن أن تكون زائفة، ثم لأن البرهان يرتكز على مبادئ يمكن أن تكون خاطئة.
العلم ينطلق، ليس من فرضيات عامة، بل من أفعال خاصة محددة، تكتشف من خلال المراقبة أو التجربة. ومن خلال العديد من هذه الأفعال نصل إلى قاعدة عامة، وحتى الأفعال هنا إذا كانت حقيقية فإن الحالة تبقى خاصة. هذه القاعدة لم تثبت كليا، ولكن تم قبولها كبداية لفرضية العمل. وإذا تكررت الأفعال لمرت عديدة فإن هذا يساهم بتأكيد الفرضية، وإلا ترفض ويتم البحث عن غيرها. ومهما كان عدد الأفعال التي تثبت الفرضية فإن هذا لا يجعلها أكيدة، علما أننا يمكن أن ندعوها quot;احتمال كبيرquot;، وفي هذه الحالة ندعوها quot;نظريةquot;وليست quot;فرضيةquot;.
المعتقد الديني وكما يشير Bertrand Russell في كتابه، يختلف عن نظرية علمية، لأن المعتقد الديني يدعي امتلاك الحقيقة الأبدية وهي ثابتة بالمطلق، بينما العلم يحتفظ دائما بطابع مؤقت: إنه يتوقع بتغييرات لنظرياته الحالية ويرى هذه التغييرات أنها ضرورية وهي قادمة عاجلا أم آجلا، كما أن العلم يأخذ بالحسبان أن منهجه هو بشكل منطقي غير قادر للوصول إلى توضيح كامل ونهائي. العلم إذا يطلب منا الابتعاد عن البحث عن الحقائق المطلقة. مع ذلك، يوجد جانب في الحياة الدينية يقول عنه Bertrand Russell بأنه الأكثر قيمة، وهو الجانب المستقل عن الاكتشافات العلمية، ويستطيع أن يبقى حيّا مهما كانت قناعاتنا المستقبلية حول موضوع الطبيعة والكون. فالدين ارتبط في الماضي، ليس فقط بالمعتقدات و أماكن العبادة، بل بالحياة الشخصية لأولئك الذين يشعرون بأهميته. حيث نجد عند كبار القديسين و الصوفيين وفي نفس الوقت، إيمانا بالعديد من المعتقدات والروحانيات أيضا فيما يتعلق بغاية الحياة الإنسانية. وبما أن الدين ليس فقط مجموعة من المعتقدات بل يضمن quot;حالة روحيةquot; مختلفة عن الإيمان بمعتقد ثابت، فإن العلم لا يستطيع أن يفسره بالكامل. ربما انحطاط وتراجع المعتقدات يجعل من الصعوبة quot;وبشكل مؤقتquot; وجود هذه الحالة الروحية لأن هذه الأخيرة ارتبطت بشكل كبير بالمعتقدات اللاهوتية. لكن لا يوجد أي سبب يجعل من هذه الصعوبة أبدية، حيث هناك العديد من المفكرين الأحرار قدموا ومن خلال حياتهم تجربة تؤكد أنه ليس بالضرورة أن تكون الحياة الروحية مرتبطة بمعتقد أو دين.
يرى Bertrand Russell أنه لا يوجد قيمة حقيقية يمكنها أن ترتبط بشكل جامد بمعتقدات من غير أساس، وإذا المعتقدات اللاهوتية كانت من غير أساس، فهي لن تستطيع أن تكون ضرورية حتى نحتفظ بها كحالة روحية دينية.
لقد حاول Bertrand Russell من خلال كتابه quot;العلم والدينquot; توضيح الخلافات بين اللاهوتيين ورجال العلم قبل أربعة قرون وحتى تاريخ تأليفه للكتاب. ووصل إلى نتيجة بأن العلم وفي جميع المرات عندما دخل في خلاف مع الدين فإنه خرج منتصرا. لكن الخلاف يدخل اليوم في مرحلة جديدة ويعود هذا لسببين: الأول، أن quot;التقنيات العلميةquot; بدأت بالحصول على تأثيرات أكثر أهمية من صيغة quot;الروح العلميةquot;. الثاني، أن أديانا جديدة هي في مرحلة أخذ مكان العقيدة المسيحية ولكنها تعيد نفس أخطاء المسيحية السابقة.
أما صيغة أو نزعة quot;الروح العلميةquot; فهي حذرة ولا تدعي أنها تعرف كل الحقيقة، أو أن معرفتها الأكثر تأكيدا وثباتا هي معرفة حقيقية. إنها تعلم أن كل نظرية يجب أن تصحح يوما ما، وأن هذا التصحيح يتطلب البحث الحر و النقاش الحر. بينما العلم النظري فقد أدى لولادة quot;التقنية العلميةquot; وهذا التقنية ليس لها طابع التردد والحذر كما في النظرية العلمية. فالفيزياء حققت ثورات كثيرة من خلال quot;النسبيةquot; و quot;نظرية الكميةquot;، ولكن جميع المخترعات هي مؤسسة على الفيزياء القديمة والتي مازالت تخدم الفيزياء بشكل كبير.
إن الحرب بين العلم واللاهوت المسيحي انتهت تقريبا، ومعظم المسيحيين ينظرون بإعجاب لدينهم الذي استطاع الاستفادة من الثورة العلمية. فالمسيحية تخلصت كما يقول Bertrand Russell من إرثها البربري القديم وتقريبا شفيت من رغبتها في الاضطهاد. ويبقى عند المسيحيين الليبراليين مذهب لديه قيمته، وهو إعجابهم بتعاليم المسيح التي تقول بأنه علينا أن نحب أقرباءنا، وفي الكنيسة هناك قناعة متنامية بأن المسيحيين يجب أن يعارضوا الحرب. أما التهديد تجاه الحرية الفكرية يأتي اليوم من قبل الحكومات وليس من الكنائس المسيحية. هذه الحكومات التي ورثت الطابع المقدس الذي عرفته الكهنوتية في الماضي. إن واجب العلماء (ليس المقصود علماء الدين) وكل من هو مرتبط بالمعرفة العلمية أن يعارض هذا الشكل الجديد للاضطهاد، بدلا من أن يعيش على أمجاد الخلاص من الاضطهاد القديم.
أن أولئك الذين تهمهم الحرية الفكرية هم أقلية، ولكن من بينهم يظهر دائما الأشخاص الأكثر أهمية من أجل المستقبل. لقد رأينا هذا مع quot;كوبرنيكوسquot;، quot; داروينquot;، quot; غاليليquot; عبر التاريخ الإنساني، ويجب ألا نعتقد أن المستقبل لن ينتج أشخاصا من نفس المستوى. إن الحقيقية الجديدة هي أحيانا مزعجة خاصة بالنسبة لأولئك الذين يمتلكون السلطة (أية سلطة).
[email protected]
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات