قاموس التخلف (3)
كلمة تستخدم في الخطاب العربي المعاصر لتعنى في نهاية المطاف أن المواطن العربي غير جدير باكتساب أى حقوق شخصية أو سياسة يتمتع بها البشر الآخرون.
قد يبدو بديهياً أن كل شعب يكتسب خصوصية معينة بسبب تجربته التاريخية وتراثه الممتد. ولهذا السبب يمكن التمييز بين التجمعات البشرية المختلفة من حيث عاداتها وتقاليدها وأزيائها وممارساتها الاجتماعية.
وقد نعترض على هذا القول مؤكدين حقيقة أن الشعوب لا تبقى على حال وجميعها سرعان ما ترسل إلى المتاحف أدوات وملابس وألفاظ تكف عن استخدامها، وتجدد باستمرار عبر التاريخ مؤسساتها ونظمها وممارساتها. ولكن يرى أنصار الخصوصية أن هذه المسيرة التى تقطعها الشعوب في عملية التطور والتجديد تظل ممهورة بخصوصية تجعلها مختلفة عن مسيرات الشعوب الأخرى للتطوير، وكذلك الحال مع النتائج النهائية التي تصل إليها فتظل لها خصوصيتها. ولذا يمكن لنا التمييز بين كل من مسيرة فرنسا وألمانيا في تبنى النظام الرأسمالي في الانتاج، كما يمكننا التمييز بين العلمانية في كل من إنجلترا وفرنسا.
في إطار هذه الرؤية تبدو الخصوصية أمراً يتجلى من تلقاء نفسه كما لا يوجد تعارض بينها وبين التغيير.
بالرغم من كل ذلك يظل مصطلح الخصوصية الشائع في خطابنا الثقافي العربي المعاصر من أهم مفردات قاموس التخلف. إذ أنه طبقاً للقاعدة التى يوصى بها علماء اللغة البراجماتين. لا تتحدد دلالة الكلمة من خلال المعاجم التفسيرية ولكن من خلال الاستخدام في اللغة الجارية. ولو طبقنا هذه القاعدة لوجدنا أن كلمة الخصوصية تظهر دائماً لكبح جماح كل محاولة من المواطنين لاكتساب حقوقهم. فعندما تظهر المطالبة بتداول السلطة والانتخابات النزيهة واستغلال القضاء تستخدم الأنظمة الحاكمة حجة الخصوصية. فمن منظور خصوصيتنا لا يكون الحاكم لدينا شخصاً مفوضاً عن طريقالاختيار الحر لإدارة شئون المجتمع، ولكنه رمز للأمة وتجسيد لإرادتها، كما أنه جندى يخوض معركة أمته ببسالة ولا يترك ميدان المعركة (قصر الرئاسة) حتى آخر نفس.
وليست المجموعات الحاكمة فقط هي التى تلوح بفكرة الخصوصية كلما شعرت بأدنى تهديد بل كذلك أطياف شتى من المعارضة السياسية القومية والدينية. فكلما طالب الناس بتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة واحترام المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وإتاحة أشكال التعبير الجماعي الحر للفئات المهنية المختلفة، بل وكلما قامت النظم الحاكمة ببعض الاصلاحات الخجولة أو الشكلية في هذا المضمار ظهرت حجة الخصوصية في خطاب المعارضين لترى أن التكافؤ الاجتماعي والقانوني بين الرجل والمرأة فقدان للخصوصية لأنه تقليد للغرب. وإن احترام حقوق الإنسان هو خضوع لهيمنة القوى العالمية. وإن النشاط السياسي الحر يثير الشقاق داخل الأمة التى ينبغي لها دائماً أن تكون صفاً واحداً كالبنيان المرصوص وأن تكون كلمتها كلمة رجل واحد.
وهكذا نلاحظ أن استخدام مصطلح الخصوصية يأتى دائماً لتكريس التخلف. ولكن قد يرى البعض أن الخصوصية ربما تعنى البحث عن طريقنا الخاص في التقدم. وهذا المعنى مقبول من الناحية النظرية، ولكن حين ننظر للأمر من زاوية ما يتحقق فعلاً نجد الواقع يسير دائماً في إتجاه آخر.
فكلما لا يشعر شخص ما أنه محروم إلا حين يرى ما يتمتع به الآخرون فكذلك الأمم لا تشعر بالتخلف إلا من خلال ملاحظة ما وصلت إليه الأمم الأخرى. ولايشعر شعب أنه مقهور إلا بإدراكه لما انتزعته الشعوب الأخرى من حقوق وحريات. ولا يقف الأمر مع تجارب الشعوب الأخرى عند مجرد الوعى بالنقص فحسب، بل يمتد إلى إمكانية، بل ضرورة استعارة أنماط السلوك والمؤسسات السياسية والقيم. ففكرة أن النمو ينبغى أن يكون ذاتياً من داخل العناصر الموروثة لكل ثقافة فكرة يكذّبها التاريخ، فلم تكن اليابان في تاريخها القديم تعرف الأحزاب ولا الانتخابات ولا الحكم البرلماني. والواقع أننا في عالمنا العربي نسلك هذا المسلك في جوانب شتى فنحن نقبل ركوب السيارات وإقامة مسابقات كرة القدم وإنشاء سوق للأوراق المالية، ولكن حجة الخصوصية لا تظهر دائماً إلا حين تطالب القوى الاجتماعية المختلفة بحقوقها وحرياتها.