قاموس التخلف (1)

كلمة تستخدم في فكرنا العربي المعاصر لقطع الطريق على محاولات الأفراد لتبنى الأفكار والسلوكيات الملاقية لعصرهم.

مما لاشك فيه أن هناك عملية تغريب للعالم تتم على قدم وساق منذ أكثر من قرنين من الزمان. وهذا التغريب يشمل الثقافات في جوانبها المتعددة أى المعلومات والقيم والممارسات. فهناك من حيث المظهر ميل عالمى إلى تبنى الكثير من مظاهر الحياة الغربية في المأكل والملبس وفي نمط المعمار وتأثيث المنازل. وبعض هذه المظاهر تبناها الأفراد لفائدتها العملية وبعضها تبنوها للتفاخر أو خضوعاً للنزعة الاستهلاكية؛ وكذلك الحال في القيم الحاكمة للسلوكيات الاجتماعية والممارسات السياسية فهناك تعميم يجرى على المستوى السياسي في العالم لتعدد الأحزاب والبرلمان وتداول السلطة، أو على المستوى الاجتماعي يجري تغير طبيعة العلاقة مع المرأة والأبناء وطريقة التعليم حيث انتشرت في جامعات الدنيا كلها العلوم الغربية.
ولكن الذين يستخدمون كلمة التغريب في الجدل الثقافي الدائر في مجتمعاتنا العربية استخداماً يقصد منه الإدانة والتشهير، تقوم قومتهم إذا ما تعلق الأمر بالمطالبة بمساواة المراة للرجل في الحقوق ، أو إذا عبر المواطن العربي عن حلمه ان يري النساء العربيات طبيبات ومهندسات ونائبات في البرلمان مثلهن مثل النساء الغربيات. وكذلك تقوم قومتهم إذ ما تعلق الأمر بالمطالبة بحقوق الإنسان وخصوصاً في مجال حرية العقيدة وحرية التعبير وممارسة النشاط السياسي والثقافي. وتقوم قومتهم إذا ما طالب البعض بفتح المجال للإبداع وأن يترك الحكم على العمل الأدبي والفنى للقارئ وتذوقه. وكذلك إذا جرى التعبير عن الأمل في أن يكون جميع المواطنين سواء أمام القانون وأمام الدولة مهمة أختلفت أعراقهم أو أديانهم. ويمكن أن تطول هذه القائمة إذا ما أضفنا إليها ضرورة احترام الحرية في مجالات الشعر والموسيقي والرسم والسينما.
في كل هذه القضايا يصبح استخدام تهمة التغريب مرادفاً للتبديد أحياناً والتقليد أحياناً والنخبوية أحياناً أخرى. ويتم شن الحملات على كافة أشكال التجديد في هذه المجالات الفنية لا لأنها تعبر عن مفهوم جديد للجمال والتذوق فحسب، ولكن أيضاً لأنها تعني إعتداد الأفراد بأنفسهم واجتراءهم على ممارسة ما يرغبون فيه بحرية. ولهذا كان الهجوم على التجديد في الفكر أو الفن دائماً من علامات التخلف.
ولا يفهم أحد من نقدنا لاستخدام هذا المصطلح أننا نقصد أن تراثنا الفكرى والفنى لا يحتوى على ماهو جدير بأن نتمسك به ونعمل على إحيائه وتجديده. بل إن هذا التراث نفسه قد تعرض قد تعرض لصور شتي من المصادرة والازدراء على يد أعداء التغريب أنفسهم، وتلك قضية أخرى ولكن مايهمنا الآن هو بيان كيف أن لاستخدام كلمة التغريب في خطابنا الثقافي المعاصر صلة وثيقة بالنزعة الرجعية التى تجعل غايتها هي الحفاظ على التخلف.
ولا يعني نقدنا لاستخدام كلمة التغريب في الخطاب العربي المعاصر أي احتفاء غير نقدي بالحضارة الغربية المعاصرة. لقد ارتبطت الحضارة الغربية بالحداثة والتقدم التكنولوجي فكان من الطبيعي أن تنتشر عبر العالم بأسرة طوعاً أو كرهاً. وأغلب الظن أن هذه المرحلة من الحضارة ليست نهاية المطاف أمام البشرية. ولاشك أن الأزمات التى يعانى منها كل من الإنسان والطبيعة من جراء تعميم نمط الحياة الغربية تجعل المجال مفتوحاً لإسهامات حضارية مختلفة من أجل تجاوز هذه الأزمات.
والاستخدام الشائع في الخطاب العربي المعاصر لكلمة التغريب يجعل منها تهمة وإدانة تقترب من الخيانة العظمي. ولكن نظراً لأن الكلمة يمكن أن تطلق على كل محاولة لإدخال الجديد في مختلف مجالات الحياة فهي يمكنها أن تطلق على النظريات العلمية والأجهزة التكنولوجية والمعتقدات الفكرية، واتجاهات الفن التشكيلي والموسيقي والأزياء وغيرها. لذلك فهي في العادة تستخدم استخداماً انتقائياً، فأغلب من يستخدمون هذا اللفظ للأدانة ممن يرتدون اللباس الغربي وربطات العنق ولكن هذا التغريب في نظرهم أمر يمكن التسامح بشأنه لأنه لا يمس العقيدة أو لأنه جانب شكلي. أو لقد كانت هذه الظواهر محل جدل تم حسمه منذ حوالي قرن من الزمان. وأغلب من يستخدمونه أيضاً هم ممن يجهزون منازلهم بالأجهزة الحديثة ويمتلكون السيارات. ولكن هذا أمر مفيد في الحياة العملية ولازم للربح والتجارة وباب لإظهار نعمة الله. ولكن حين يتعلق الأمر بحرية المواطنيين ومساواتهم وحقهم في المشاركة في إدارة أمورهم العامة تكون تهمة التغريب جاهزة لعرقلة هذه المسيرة.