بالرغم من المشاعر الإسلامية المتعاطفة مع استقلال اقليم كوسوفو عن دولة الصرب، فإن أيا من الدول العربية والإسلامية لم تبتهج رسميا بهذا الاستقلال، ولم تعترف بالدولة الكوسوفية الوليدة. وكأن هذه الدول قد أدركت مغزى هذا الاعتراف على بلدانها التي تضم أثنيات وأديانا ومذاهب شتى، لا يتعايش أتباعها طواعية وعن طيب خاطر مع بعضهم بعضا، بسبب القوانين والممارسات التي تميز بين هذا وذاك. وبسبب المضايقات وسياسة التهميش والاستهزاء. وعدم المساواة في الحقوق والواجبات بين أتباع المذاهب والأديان التي تسكن البلاد.
لقد اقتطعت أمريكا وأوروبا من صربيا إقليم كوسوفو، وشكلت منه دولة ومنحته الاستقلال، وهو إقليم صربي من الناحيتين التاريخية والجغرافية، اعتنق سكانه أو أكثرهم الإسلام أثناء الاحتلال العثماني لبلاد البلقان. وعاد إلى صربيا بعد تفكيك المستعمرات العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، ومنح الحكم الذاتي في الاتحاد اليوغسلافي بزعامة بروز تيتو. لكن صربيا بعد تفكيك الاتحاد اليوغسلافي كالت بمكيالين مختلفين في تعاملها مع سكان الإقليم. ولم تعامل أهله كمواطنين لهم من الحقوق ما للشعب الصربي من حقوق، فحرمتهم من الحكم الذاتي الذي كان ممنوحا لهم، الأمر الذي دعاهم للمطالبة بحقوقهم، ثم المطالبة بالاستقلال، وتشكيل خلايا عسكرية مقاتلة لتحقيق هذا المطلب، فكان ما كان عام (1999) من قهر وقصف وتدمير وتشريد لأهل الإقليم.
ليس صحيحا ما قيل من أن بعض الدول العربية قد تجاهلت إعلان استقلال كوسوفو احتراما لمشاعر روسيا. لأن بعضها الآخر الذي تجاهل هذا الاستقلال ولم يعترف به أيضا، تربطه بأوروبا وأمريكا الداعمة لاستقلال كوسوفو علاقات قوية وهامة، يسعى هذا الطرف العربي باستمرار لتعزيزها وتوطيدها أكثر فأكثر. وحقيقة الأمر أن الدول العربية حين تعترف باستقلال هذا الإقليم، فإنها تعترف بحقه أهله- المختلفين دينيا عن سكان صربيا، ولا يتمتعون بالحقوق الكاملة للمواطنة- في تكوين دولتهم المستقلة. وهي بهذا تعلن تفهمها لمطالبة كل الجماعات المماثلة لجماعة كوسوفو في الاستقلال، أي أنها تدعم حق الاستقلال لكل أقلية، دينية كانت أم أثنية تعاني من التمييز والتهميش أو الاضطهاد المادي أو السياسي أو المعنوي، ولا تتمتع بالحقوق التي يتمتع بها غيرها من مواطني البلاد.
باستثناء اسبانيا التي ترفض وتخشى استقلال اقليم الباسك، فقد دعمت أمريكا وأوروبا الغربية- تحقيقا لمصالحهم الحالية والمستقبلية- مطالب سكان كوسوفو، وساعدتهم على نيل وإعلان الاستقلال. ومن هذه المصالح إضعاف وإشغال روسيا المعادية لأمريكا والغرب، والحليف التقليدي للصرب. وقطع دابر التوترات في المنطقة الأوروبية التي هي بالنسبة لأمريكا حليف استراتيجي غني اقتصاديا وماليا، ومتفوق تكنولوجيا، وقوي عسكريا، ويعتمد أنظمة وقوانين ومؤسسات مشابهة لنظام وقوانين ومؤسسات الولايات المتحدة.
كما أن في دعم استقلال كوسوفو رسالة تحذير من أوروبا وأمريكا إلى العالم الثالث عامة والبلاد العربية والإسلامية خاصة، حيث تكثر الأثنيات والمذاهب والأديان المغبونة الحقوق، والتي قد تتسبب مستقبلا في نشوء توترات ومناطق ملتهبة، في الوقت الذي تسعى فيه أوروبا وأمريكا أن تكون هذه المناطق سوقا مستقرة لمنتجاتها، وأرضا آمنة لوصول النفط إليها.
وليس صحيحا أيضا ما قيل من أن لهذا الدعم الأمريكي الأوروبي خلفيات دينية مذهبية كالصراع المذهبي بين الكاثوليك والأرثوذكس (صربيا وروسيا أرثوذكس) أو بين البروتستانت- الإنجيليين والأرثوذكس. لأن الدول الأوروبية وأمريكا هي دول علمانية تتبع مصالحها ولا تفكر دينيا، وإلا لما دعمت قيام دولة يدين أهلها بالإسلام، هذا أولا. وثانيا لأن الخلاف الديني العقائدي بين الأرثوذكس والبروتستانت هو الخلاف الديني ذاته بين الكاثوليك والبروتستانت، حيث المذهب البروتستانتي حديث العهد لا يزيد عمره عن خمسمائة سنة. ولا توجد أيضا أية خلافات دينية عقائدية بين الكاثوليك والأرثوذكس، والخلاف الذي نشأ في بداية القرن الحادي عشر الميلادي بين الزعامتين الدينيتين (أنطاكية وروما) هو خلاف على الكرسي، وعلى الزعامة الدينية للعالم المسيحي. عدا عن أنه لم تقم أية حروب دينية بين الكاثوليك والأرثوذكس. وما حدث بين الطرفين أثناء الحروب الصليبية هو ما يحدث دائما بين المحتل والمقاوم للاحتلال.
إن في البلاد العربية الكثير من الأثنيات والأديان والمذاهب التي يشعر أتباعها بالغبن، ولا يحظون بالعدل والمساواة مع باقي السكان. وسلطات البلاد لا تساعدهم ماليا كما تساعد غيرهم، ولا تصرف لهم من أموال الضرائب ومن ثروات البلاد ما تصرفه لغيرهم من الجماعات والمؤسسات الدينية. وقد حُرم هؤلاء من الحقوق التي منحت لغيرهم في بناء المعابد والممارسة العلنية لشعائرهم الدينية، لا بل بعض الجماعات لا يسمح لها أسوة بغيرها بذكر ديانتها على بطاقات الأحوال الشخصية، وبعض الجماعات الأخرى لا يسمح لها بتعليم لغتها لأطفالها في مدارسها الخاصة. كما أن هذه الأقليات قد هُمشت في الوظائف العامة، ومُنعت من تولي وظائف عليا في المؤسسات العسكرية والسياسية والتعليمية.
ويبقى السؤال: هل سيسود الاستقرار منطقة البلقان، وبالتالي القارة الأوروبية، بعد استقلال كوسوفو عن صربيا؟ أم أن المنطقة مرشحة لمزيد من أعمال العنف والقتال؟ وستكون بؤرة توتر جديدة مشابهة للحال في الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل. وستشتعل النيران بعد رحيل القوات الدولية عن كوسوفو، تلك القوات التي يكلف وجودها الكثير من الجهد والمال، وربما الرجال!
[email protected]

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه