تعاني المرأة في كل المجتمعات العربية والإسلامية من التمييز والتهميش والاضطهاد. ومن لا تضطهدها قوانين بلادها، تضطهدها قوانين مجتمعها وعاداته ومفاهيمه. لكن معاناة بنات العشيرة هي الأصعب، مقارنة بنساء باقي دول الخليج وبلاد الشام ومصر والسودان وشمال أفريقيا. وتأتي صعوبة معاناتها من أنها متعلمة وذكية وطموحة وغنية، وتنتمي لدولة تشكل مركز ثقل مالي وسياسي وديني، لكن مجتمعها مجتمع مغلق، له خصوصيته الدينية، ويتمسك بعادات وتقاليد ومفاهيم قبلية عتيقة، شديدة البداوة.
تعيش فتاة العشيرة هذه الآونة مرحلة مخاض صعبة، لبناء ذاتها، ونيل حريتها وحقوقها المحرومة منها، وهي تكافح كفاحا مريرا، ولكن بنعومة وصبر الأنثى، لإثبات كفاءتها، ووضع قدمها في الساحة العامة، ممهدة الطريق لتكون شريكا أساسيا في بناء أسرتها ومجتمعها ووطنها. لكن السادة المالكون يرفضون عتق إماءهم من رقهم وأغلالهم، خوفا من أن يفقدوا جواريهم، وأدوات تسليتهم، ووسائل متعتهم. فالمرأة في نظرهم لم تُخلق سوى للخدمة والجنس والإنجاب، فهي ليست إنسانا كاملا، بل نصف إنسان شرعا وقانونا (ناقصة عقل ودين) و (نصف ميراث وشهادة) وتُعامل على هذا الأساس منذ نعومة أظفارها.
إن قائمة الممنوعات على فتاة العشيرة قائمة طويلة، فهي منذ طفولتها عليها أن تخدم في المنزل إخوتها وأشقاءها الذكور، وفي المدرسة ممنوعة من ممارسة الرياضة كباقي خلق الله من تلاميذ العالم، لتبقى أبدا ضعيفة البنية معتلة الصحة. أما في الجامعة فخياراتها في فروع العلم والتخصص محدودة، لأن للإناث علومهن الخاصة بهن.! كذلك ممنوعة هي أيضا من مراجعة الدوائر الحكومية والرسمية بمفردها، وممنوعة من الحصول على بطاقة تعريف شخصية (هوية) إلا بموافقة ولي أمرها أو مالكها (في سفر العدد، الجزء الرابع من التوراة، كان بنو إسرائيل يحصون عدد ذكورهم، وعدد أبكار حيواناتهم، ولا يحصون عدد إناثهم). وممنوعة أيضا من السفر والانتقال والذهاب للسوق وحدها، ومطالبة أيضا بعدم إظهار وجهها، بقصد طمس معالمها وملامحها، كي تكون مجرد رقم بين أرقام النساء، بحجة أن كل ما فيها (عورة) ويجب ستر العورة. كما أنها ممنوعة من طلب الطلاق مهما جار عليها زوجها، ومهما تزوج عليها مثنى وثلاث ورباع، ومهما استمتع بما أمواله من نسوان. وأخيرا وليس آخرا ممنوعة من القيادة والولاية فتلك بدعة وفتنة في المجتمع، والعياذ بالله منها.
لقد انتزعوا منها خياراتها، وأجبروها على توقيع صك عبوديتها، وتبعيتها لمالكها الأب أو الأخ، أو الزوج الذي يتحتم عليها الخضوع المطلق له، فهو الآمر الناهي لها، المتحكم في حركتها وعقلها وعواطفها ورغباتها. ومن حقه أن يضربها ويؤدبها ويهجرها في الفراش. ومن واجبها أن لا تنام إلا بإذن منه وأمره، ولا تحزن إلا بأمره، ولا تفرح إلا بأمره، ولا ترى أهلها وصديقاتها إلا بأمره، ولا تخرج من بيته إلا بأمره، ولا تقبل شيئا أو ترفضه إلا بأمره. وكيف لا وطاعة الزوج من طاعة الله، وقد نسبوا أحاديث للرسول بهذا الخصوص (لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها) وأن عليها لو كان لها أن تسجد لأحد غير الله أن تسجد صبح مساء لزوجها (ولو أمرت أحدا أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها). كما أجبروها على التسليم بأنها ناقصة عقل ودين، وأنها فتنة ضارة في المجتمع، وأنها سبب كفر الرجال، وأن أكثر أهل النار من النساء. وقد نسبوا للنبي حديثا عن أسامة بن زيد في الصحيحين يقول فيه (ما تركت بعدي من فتنة أضر على الرجال من النساء) وحديثا آخر عن أبي سند الحزري في صحيح مسلم يقول فيه (اتقوا الدنيا واتقوا النساء). وآخر عن ابن عباس عن النبي، قال (لم يكفر من كفر ممن مضى إلا من قِبَلِ النساء، وكفر من بقي من قِبَلِ النساء) كما قالوا لها أن الجن يتربص بها، ويستحليها إذا رأى وجهها، فيضاجعها دون علمها، ولهذا بعض الرجال خوفا من رذالة هذا الجن، يجبرون زوجاتهم على ارتداء النقاب داخل البيوت. ثم أضافوا لعلمها، أن قسما من الجن مختص بالجزء الأسفل من المرأة، يوسوس لها، كي تكثر من هزه، ليزداد الرجال إثما. لا بل ادعوا أن الجن يتلبسها، وأنها والشيطان سواء. ونسبوا للنبي أيضا أحاديث بهذا الخصوص. فعن ابن الزبير أن النبي قال (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان). وعن ابن المسيب قال (ما يئس الشيطان من أحد قط، إلا أتاه من قِبَل النساء).
لقد اضطهدوها في استقبالها كمولودة أنثى، واضطهدوها في تربيتهم لها، وفي التمييز بينها وبين إخوتها الذكور، واضطهدوها في مدرستها ومناهج التربية والتعليم، واضطهدوها في تزويجها صغيرة من شيخ طاعن في السن، أو قبل إتمام تعليمها، أو من رجل دون رغبتها أو إرادتها.
باسم الدين وتعاليم الدين اضطهدوها، وباسم الشرف والأخلاق اضطهدوها، وباسم العادات والتقاليد البدوية اضطهدوها. وبحجة الأمومة ورعاية الأطفال اضطهدوها، وبحجة الدورة الشهرية- التي لولاها لانقرض الجنس البشري- سلبوا حقوقها وهمشوها.
ورغم كل هذا يدعون أنها معززة مكرمة، ومصانة كجوهرة ثمينة، وصيانتهم لها أن وضعوها في كيس أسود أحكموا إغلاقه، وحبسوها بين سقف وأربعة جدران، لا تخرج من بينهم أبدا إلا إلى قبرها، حفاظا على تلك الجوهرة الثمينة، وخوفا من أن ترى النور أو تستنشق الأوكسجين، فتحترق أو تفقد بريقها، فحولوها بهذا الفعل إلى جماد، وأفقدوها آدميتها.
تلك هي كما يتقولون، تفسيرات السلف بخصوص المرأة،. ذاك السلف الذي عاش قبل ألف وبضع مئات من السنين, حيث شعر الماعز مسكنه، ووبر النوق لحافه, والدواب وسيلة سفره، ورفيقة دربه، وجارة فراشه. ذاك السلف الذي اعتقد أن الأرض مسطحة تثبتها الجبال، وأن الشمس تسير من المشرق إلى المغرب ثم تعود إلى مستقرها.
ذلك هو السلف الذي يريدوننا أن نخضع لتفسيراته ومفاهيمه، ذلك السلف الذي لو عاش عصرنا، وتعلم علومنا، ورأى اختراعاته وتقانته واتصالاته وفضائياته، وسمع أننا قد وطئنا وجه القمر، واخترقنا عنان السماء، أو لو قيل له أن أقل أطبائنا عمرا وخبرة، قادر على معرفة جنس الجنين في رحم أمه، لظن أنه في حلم ثقيل، أو لفغر فاه مكذبا، وصاح الله أكبر، إن الناس قد كفرت، والقيامة قد قامت، وما هذا سوى كفر وزندقة وشيطان رجيم.
تلك هي أحوال مجتمعاتنا، التي لن تتحرر من غفلتها وخيبتها إلا بتحرر نسائها. ولن تتحرر نساءها إلا بتحرر رجالها من أغلال المفاهيم والقوانين القبلية، ومن التفسيرات المتخلفة، فالعلاقة السببية بينهما متبادلة. لكن هذا التحرر سيعطي الكثير، فحين تنال بنات العشيرة حقوقهن، تتحرر نساء المنطقة العربية والإسلامية كافة، وتتحرر الشعوب العربية من تخلفها وجهلها وعطالتها، وتتصالح من نفسها ومع بعضها ومع العالم. وتبدأ في بناء كيانها المتماشي مع الزمن والحضارة الإنسانية. فهل ذلك اليوم قريب..؟
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه