الوجدان في لغة العرب وقواميسها مشتق من (وجد) أي أصاب الشيء أو أدركه وظفر به. وهو أيضا الحزن والفرح والحب والغضب. أي أنه- وبحسب لغتنا- مجرد عاطفة، تقوى وتضعف، وتتغير وتتبدل بتغير الأحوال والظروف.
وفي عرف بعضهم أيضا أن الوجدان هو النفس البشرية، وقواها الداخلية، وإن شئت الباطنية. والوجداني: ما يدركه المرء من نفسه دون قيود أو ضغوط. و(الوجيد) جمع وجدان: وهو ما استوى من الأرض، أي استقام. فلا اعوجاج ولا التواء، ولا انخفاض ولا ارتفاع. وهذا هو المعنى الأصح لمصطلح: الوجدان.
والضمير في لغة العرب، من (ضمر) أي الضعيف الهزيل، والعنب الذابل، والغصن الذي ذهبت ماءه، وهو كذلك باطن الإنسان، وهو أيضا: المخفي والغائب أو المغيب. وهذا ما أخشى أن يكون.
وإذا كانت هكذا تتعدد في لغتنا وتختلف التفاسير، وتضطرب في ترجمة معاني الوجدان والضمير! فلا غرو أن نكون في أزمة. فالضمير هو البوصلة التي تهدي إلى الدرب، وتدل إلى الخير والشر، والعدل والظلم، والخطأ والصواب. ودونه نضل الطريق، ونفقد قدرتنا على الرؤية الواضحة، والكيل العادل، والقياس الصحيح.
إن من أهم المشاكل التي نعاني منها هي استقامة الوجدان، وحرية واستقلال وعدالة الضمير. فضمير بعض الناس مكبل مقيد، أسير الخوف والولاء، يرزح تحت وطأة المصلحة والتوجيه وازدواج المعايير. فما نبيحه لأنفسنا نمنعه عن سوانا! وما نطالب أن نتمتع به من حقوق الإنسان، نرفض الاعتراف بها لغيرنا ممن يعيشون في الوطن معنا. نمارس القهر على غيرنا، ونربأ أن يمارسه أحد علينا. وما نراه حقا من حقوقنا، نراه شرا وعدوانا إذا امتلكه الآخرون. الآخرون الذين نتعالى عليهم، ونطالبهم باحترامنا. ونحتقر عاداتهم وثقافتهم، ونطالبهم باحترام عاداتنا وثقافتنا.
لا أدعي أن أمراضنا كثيرة. ولكننا حين نرى أناسا يحرّمون الخمر، ويدينون شاربه وصانعه وناقله وبائعه، وفي الوقت ذاته يتاجرون بالمخدرات، وينشرون السموم في أجساد الفتيان والفتيات. أو حين نطالب بالحرية لأنفسنا ونرفض أن ينالها غيرنا ممن لا يشاركوننا عرقنا أو ديننا أو توجهاتنا. أو حين ندين الإرهاب في منطقة، ونجد له المبررات والتأويلات في منطقة أخرى. وحين نهلل ونبتهج لاستقلال إقليم كإقليم كوسوفو عن دولة الصرب، ونبتئس ونغضب لاستقلال تيمور الشرقية عن البرتغال، وعدم ضمها لأندونيسا، ونعتبر ذلك مؤامرة استعمارية صهيونية. أو حين نهاجم ونرفض الاستعمار في كل زمان ومكان، ونصفه بالشر المطلق والاعتداء الغاشم على الشعوب وثرواتها، وعلى حرية وكرامة وإنسانية الإنسان، وفي الوقت عينه نعتبر احتلال الأندلس لمدة ثمانمائة عام فتحا إلهيا مقدسا، وإعلاء لإنسانية الإنسان. فإن أقل ما يعنيه هذا الازدواج في المقاييس والمعايير أن هذا الضمير في أزمة وفي مرض وشلل خطير.
ولا شك أيضا أنه في التفاف واعوجاج كبير، ضمير التاجر الذي يدعي الوطنية، ويقوم في الوقت نفسه في السر، بآلاف الخدع والحيل لينال جنسية أوروبية أو كندية أو أمريكية. أو من يدعو ويشجع على بناء مئات وآلاف المعابد الدينية الخاصة بطائفته أو مذهبه، ويمنع أو يغضب ويثور ويعد بعظائم الأمور في حال بناء معبد ديني واحد لطائفة دينية أخرى غير طائفته. أو حين يفاخر شخص ما بأسلمة آلاف من المسيحيين في العام، ويجرّم في الوقت عينه، ويدين من ينصّر مسلما واحدا، فلا شك أن هذا الضمير في حالة انقسام وانفصام، إن لم نقل في حالة انعدام. خاصة حين يُكافئ ذاك، ويقذف من تثبت عليه تهمة التنصير، في خبر كان وإن وأخواتها وسجونها ومستنقعاتها.
ولا شك كذلك أن الضمير الجمعي في مرض ميئوس منه خطير، حين نحاسب الصغير ونترك الكبير. أو عندما يدفع شاب أو فتاة ما يعادل راتب سنتين أو ثلاث سنوات لقاء توظيفه. أو عندما ينتقم هذا الموظف أو ذاك من المواطنين المراجعين، ويُتعبهم ويعقّد أمورهم ومعاملاتهم، لأن راتبه لا يكفيه، أو لأنه غير منشرح الصدر في موقعه، أو لأن موقعه لا يمكنه من الرشوة كما يمكّن بعض زملاءه الآخرين. وكذلك الأمر حين يصمم طبيب أن يجمع خلال عام واحد من مرضاه، كل ما أنفقه أهله عليه من مال خلال سنوات دراسته.
إن الكيل بمكيال واحد، وخاصة بين أبناء الوطن الواحد، هو سمة المجتمعات المتعافية الخيرة. وهو القاعدة الأساسية التي تنهض بالوطن، وتضمن حسن سير العلاقات بين الناس. وإلا فمن الواجب- إكراما- دفن الميت، حتى لو أنتن، وفاحت رائحته، وأزكمت الأنوف.
[email protected]

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه