أن تسمع بالخبر من وسائل الإعلام، لا كما تراه بأم العين حيا على بعد خطوات قليلة منك. ولهذا لا أستطيع أن أصف دهشتي وارتباكي حين همس ابني في أذني أن هاتين الفتاتين الجالستين قبالتك قد جئن لقعد قرانهن على بعضهن بعضا (والغريب أني ظننتهما شقيقتين للشبه القوي بينهما). وأن هذين الرجلين في جهة اليمين، قد جاءا للسبب ذاته! وقد استدعى ذلك مني فترة من الزمن كي أستوعب وأهضم ما همس به ابني في أذني، وأصدق ما رأت عيني. فقد ظننتهم ينتظرون عريسا أو عروسا، أو أنهم من مرافقي بعض العرسان الذين غصت بهم القاعة، وينتظر كل منهم دوره للوقف أمام الموظف المختص الذي يرتدي لباسا مميزا، أشبه ما يكون باللباس الفولكلوري، ويعقد القران بمراسم خاصة، في غرفة خاصة.
كان ذلك قبل عامين اثنين حين زرت لأول مرة دولة السويد، وقضيت فيها خمسة عشر يوما، حضرت خلالها في الفرع الأشهر لبلدية ستوكهولم عقد قران شاب وفتاة من الجالية العربية المستوطنة هناك. وعقد القران في دار البلدية إلزامي لكل المواطنين السويديين، وألا لا يتم تسجيل زواجهم في الدوائر الحكومية.
لعل الحديث عن الشذوذ الجنسي أمر غير مألوف، وغير مستحسن، وربما غير لائق أبدا في بيئتنا الاجتماعية العربية، لكنه للأسف حالة قائمة تعاني منها مجتمعاتنا منذ القدم. والتعامي عنها أو السكوت عليها، أكثر خطرا من وضعها جهارا نهارا على الطاولة للبحث في أسبابها، ومحاولة علاجها.
إن التعاطي الشاذ الذي يمارسه بعض الأزواج المنحرفين، مع زوجاتهم، يبدو- على قبحه- هينا بالقياس مع الشذوذ الجنسي الذي يمارسه الذكور فيما بينهم، والشذوذ الجنسي الذي تمارسه الإناث فيما بينهن أيضا.
إن أول ذكر لأحد أنواع الشذوذ الجنسي (اللواط) ورد في أول الكتب الدينية السماوية المخطوطة والمعروفة في شرقنا العربي، وهو سفر التكوين اليهودي، السفر الأول من أسفار التوراة الخمسة، وأسفار اليهود المقدسة، التسعة والثلاثين، أو ما يسمى بالعهد القديم. إذ يحدثنا هذا السفر (التكوين) عن لوط، وقوم لوط الذين عاقبهم الله ودمّر مدينتهم وأبادهم بسبب أفعالهم الجنسية الشاذة. ولهذا فقد يكون أصل كلمة (اللواط) مبنى ومعنى، عبري لا عربي. لأنها مشتقة من اسم لوط العبراني.
لم تقتصر الممارسات الجنسية الشاذة على ذلك الزمن السحيق البعيد. بل سارت مع الزمن حتى عصرنا الحاضر. وقد مارسه قديما بعض أكابر القوم وبعض صعاليكهم. فأمير المؤمنين الخليفة الأمين بن الخليفة هارون الرشيد، ابتاع الخصيان وغالى بهم، وصيّرهم لخلوته، ورفض النساء والجواري، وهام حبا ولوعة بغلام يدعى كوثر، وأنشد فيه شعرا غزليا. وأمير المؤمنين الخليفة الواثق بالله بن الخليفة المعتصم وحفيد الخليفة هارون الرشيد، هام شوقا وغراما بغلامه المدعو مُهج. وقال فيه شعرا رقيقا عذبا أيضا. وأمير المؤمنين الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، اشتهر بتلوطه حتى قيل أنه حاول أن يلوط أخاه، إذ راوده على نفسه (أنظر تاريخ الخلفاء للسيوطي). ورواية quot;عمارة يعقوبيان لعلاء الدين الأسوانيquot; التي تتحدث عن فترة ما بعد الملكية في مصر، تستفيض في الحديث عن الشذوذ الجنسي لصحفي، بل لرئيس تحرير صحيفة، يدعى quot;حاتمquot; ابن عائلة ميسورة مؤلفة من أب مصري درس القانون في الغرب، وأصبح عميدا لكلية الحقوق، فغرق في أبحاثه ومحاضراته، وأم فرنسية مثقفة، منشغلة عن ابنها في عملها كمترجمة في السفارة الفرنسية. وقد وقع هذا الصحفي quot;حاتمquot; منذ طفولته ضحية خادم شاذ كان يعمل في منزل العائلة.
لقد أصبحت أخبار الممارسات والاعتداءات الجنسية الشاذة تظهر للعلن منذ انتشار المواقع الإلكترونية. فلا يكاد يمر أسبوع إلا ونقرأ في هذه المواقع- بأسماء الأماكن والأشخاص- عن حادثة اغتصاب هنا، وأخرى بالتحايل والتخدير هناك، خلفت ورائها ضحية مشوهة نفسيا وجسديا، أو جريمة قتل. لكن الممارسات الشاذة التي لا نسمع بها ولا نقرأ عنها، ويتم التستر عليها، تبقى أكثر عددا وأفدح ضررا.
وإذا كنا نسمع ونقرأ عن الممارسات الشاذة بين الذكور، فإننا لا نسمع ولا نقرأ شيئا عن الممارسات الشاذة التي تحصل بين الإناث- ونأمل أن لا تكون موجودة- والتي قد يكون من أسبابها في مجتمعاتنا العربية، العنوسة والكبت. لكن هذه الحالات والممارسات لا يمكن ضبطها ووضع اليد عليها، بسبب السرية التامة التي تحيط بها. وبسبب قساوة العادات والتقاليد. وبسبب الخصوصية التي تتمتع بها الإناث في مجتمعاتنا.
وإذا كانت هناك قوانين وعقوبات تستخدم ضد الذكور الذين يمارسون فيما بينهم الفعل الشاذ، فإنه لا توجد مثل هذه العقوبات الرادعة والنصوص القانونية ضد الممارسات الشاذة التي تتم بين الإناث، وتترك آثارا سلبية لا تقل فداحة وخطورة عن الآثار السلبية الناجمة عن العلاقات بين الذكور. فالمشرع لم يأخذ مثل هذه الحالات بالحسبان. أو لعله أهمل ذلك عمدا، من باب الحياء، أو من باب المكابرة، أو من باب الحرص على سمعة المجتمع ونساءه، أو ربما لإدراكه أنه يستحيل ضبط مثل هذه الحالات في مجتمعاتنا.
لا أظن أن في الدول الغربية قوانين عقوبات بحق الذين يمارسون الشذوذ الجنسي. لكنني أعلم أن بعض الدول الغربية- وليس كلها- تسمح بزواج المثليين، وتسجلهم في لوائحها الرسمية كمتزوجين. والسجال ما زال قائما في البلدان الأخرى للسماح بمثل هكذا زواج. وقد تظن هذه الدول التي أقرت زواج المثليين، والجماعات التي تطالب بإقراره، أن ذلك يعزز الحرية الشخصية، ويتماشى مع حقوق الإنسان. أو لعلها تريد أن تجعل الأمور في العلن بدلا من أن تبقى سرا في الخفاء.
لقد رفضت وأدانت وحذرت كل الديانات السماوية والأرضية، من هكذا علاقات وممارسات شاذة بين البشر. كما رفضتها جميع الأعراف والقيم الاجتماعية والأخلاقية، شرقية كانت هذه القيم والأعراف أم غربية. والذين يتعاطون مثل هذه الأفعال، أناس منبوذون مذمومون في مجتمعاتهم، يشار إليهم بالبنان، وتتجنب الاختلاط بهم والتعاطي معهم الأكثرية الساحقة من الناس.
قيل قديما:quot;إذا عُرف السبب بَطُلَ العجبquot; فما هي أسباب الشذوذ الجنسي؟ هل هي أسباب عضوية خلقية، بدليل تحول بعض الناس من ذكر إلى أنثى، ومن أنثى إلى ذكر بعد إجراء عمليات جراحية؟ علما أن هذا التحول لا يتبعه تحول في الوظيفة، بمعنى أنه لا يمنح المتحولة رحما حقيقيا، ولا المتحول عضوا ذكريا حقيقيا. وكل ما في الأمر أنه يلبي حاجة نفسية لهؤلاء. فهل هو مرض نفسي إذن؟ وإذا كان الأمر كذلك، فليس أكثر من العيادات النفسية في الغرب، والغربيون يذهبون إليها لأهون الأسباب، والمشكلة بقيت على حالها لم تُحلْ. فهل السبب هو الكبت؟ أيضا الكبت غير موجود في البلدان الغربية. فما السبب إذن؟ لعله التفكك الأسري، وسوء التربية؟ اللذان يسببان تخلخلا في الشخصية، كما أرادت القول (عمارة يعقوبيان).. أم أنه كل هذه الأسباب مجتمعة؟.. والسؤال الأهم الذي نحيله إلى ذوي الاختصاص: ما هو العلاج؟
[email protected]
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات