عجبتُ لحرّ يستحي باعتذاره وأولى به أن يستحي بذنوبه (الشاعر القروي)
مقدمة: المعنى والضرورة
ان (الاعتذار) كلمة عظيمة سامية تعالج النفس الانسانية، وتداوي جروح الأحقاب والتواريخ بمجرد قولها وسماعها. انها لا يعرفها الا الاقوياء، فالضعفاء لا يعتذرون ابدا. ويرى البعض، ان رفضها واحتقارها والتعنت ضدها والمكابرة في نطقها يجعل الآلام الإنسانية فوق الاحتمال، ويدفع بتراكم الاحقاد، والاخذ بالثارات، والعمل بشريعة الغاب، فتتفاقم العواقب الوخيمة في كل المجتمعات ناهيكم عن مسؤولية كل السلطات في احتضان المجتمع وزرع شمائل الحب والتسامح والانسجام فيه بديلا عن الكراهية والاحقاد والانقسام. ان هذا العصر يطالب كل المسؤولين والساسة والكتّاب والمثقفين ان يعملوا بمبدأ ثقافة الاعتراف ومداواة جروح نفسية سايكلوجية ومعالجة نزوعات المجتمع مهما بلغت حدتها من التوحش واللا اخلاق، وان يقفوا صفا واحدا ضد كل المجرمين والقتلة والمارقين، وازاء كل الغطرسة السياسية والعسكرية، وضد اعمال الانتقام والتشظي، وضد صلف دكتاتورية الظالمين المتهتكين، وهجمة الغزاة والمحتلين من اجل بناء اجيال جديدة تتمتع بسلوكيات حضارية متعاقبة.
هناك من يقبل هذه quot; الثقافة quot;، وهناك من لم يقبلها، او حتى يتقبلها.. هناك من يسعى الى ان تكون احياء لبعض القيم والاعتبارات التي عرفتها مجتمعاتنا قديما، وهناك من يرفضها معتبرا اياها ثقافة مستوردة من الحضارة الغربية، بل ويضيف انها وافدة ستجعل مجتمعاتنا ضعيفة مستسلمة للاخرين.. هناك من يؤمن بنزعة التسامح والعفو عّما مضى من اجل اهداف تحفظ وحدة المجتمع ونقاء الانسان وحب الاخر.. وهناك من ليس له القدرة على ازالة كل المخزون المتراكم في نفسه ازاء الظالمين والخطائين. ان ثقافة الاعتذار التي تنبثق عن نزعة التسامح لا يمكن ان يحتكرها اي طرف في هذا الوجود، بل انها معّبرة عن مجموعة خصال وسلوكيات وتربويات لا يمكنها ان تمارس في مجتمعات متوحشة، يأكل القوي فيها الضعيف، ولا عند سلطات ماردة ودول قوية تفرض جبروتها على مجتمعات معينة فتسحقها، وتأكل حقوقها، وتتفنّن في شرذمتها وبعثرتها في هذا العالم.
الغاطس من الثقافة المخفية
كما هو حال الانسان، هو حال الدول والمجتمعات، فثمة من يمتلك نزعة مخفية للتسامح ومستعد ان يقدم لك اعتذاره ان اخطأ، وثمة من يجيش صدره بالحقد الاسود وتتراكم عنده الكراهية بحيث لا يمكنه اّلا ان يؤذيك او يثأر منك او يبقى خصما مستترا.. وكما يتقّدم الانسان في معرفته ويطّور فكره وحياته وانتاجه على مر الزمن، كذلك حال الدول والمجتمعات انها تتقدّم نحو الامام.. ولكن يبقى ذلك الغاطس من الثقافة المخفية التي تستخدم في الوقت المناسب وتستهدف الاخر في المكان المناسب.. وحتى ان ظهر صاحبها او عرف في التاريخ والحاضر، فهو لا يعرف اي نوع من الاعتذار.. ولا يدرك كيف يعترف بالاخطاء المرتكبة.. وكما هو معروف في العالم اجمع ان الانسان ابن ثقافته وبيئته، حتى ان حمل اكثر من ثقافة، فان تربيته هي التي تخلق سلوكه العام بدرجات مختلفة ومتفاوتة.. وهذا حال اي مجتمع، او سلوك اي دولة، او ممارسات اي نظام سياسي.. فكل منها يمتلك سياسته وثقافته واسلوبه في التعامل وطريقته في الخطاب ومنتجاته في الحياة..
الخطأ.. الصواب بين النسبي والمطلق
لقد علمنا التاريخ وكل ترسباته وبقاياه المعاصرة ان الحاضر هو خزين تراكمات الماضي ـ بتعبير انطونيو غرامشي ـ، فان لم يكن هناك تربويات لها آليات معينة لتصفية الادران وتنقية الدواخل، فان الحياة ستغدو جحيما خصوصا وان الماضي لا يرجع ابدا، وان القديم لا يمكن استعادته، وان التاريخ لا يعيد نفسه، وان كل ما نلمسه من حالات معينة في مجتمعات تسود فيها الانقسامات والصراعات ما هي الا فترات تختبئ فيها كل الاحقاد، فما ان تجد لها متنفسا حتى تنفجر غاضبة كي تعّبر عن الدواخل الحقيقية.. لقد شهدنا في السنوات الخمسين الاخيرة مجموعة هائلة من التناقضات ومنتجاتها، شهدنا كيف جرى التعبير الحقيقي عن الصراع الطبقي بين الاغنياء والفقراء..؟ وكيف جرى الصراع الدموي بين اعيان المدن والسكان الحضريين وبين المهمشين القرويين..؟ وكيف ترجمت التناقضات عن أسوأ حالاتها بين المدنيين والعسكريين..؟ وكيف اقصيت نخب المبدعين والمثقفين والمتخصصين والاذكياء من قبل الجهلاء والاشقياء واولاد الشوارع..؟ كم وجدنا التباين في سلوك المتحضرين عن مثالب المتوحشين؟ ان الازمان القاسية والمرعبة هي التي تولد الاحقاد وركام التوحش بعيدا عن مفاهيم القناعة والرضى والقبول.. ان ملايين المعدمين سيحقدون حقا على مجتمعهم، وان الالاف المؤلفة من الارامل والمطلقات سيحقدن على كل النسوة الاخريات.. وان آلاف اليتامي والمساكين سينشأوون وقد امتلأت صدورهم بالكراهية.. وهكذا. ان المشكلة ليست في الضحايا انفسهم، بقدر ما هي كامنة في الاسباب التي خلقت جملة من ضحايا العنف والكراهية والاحقاد والظلم والجور.. وبقدر ما تنتجه تلك الاسباب من نتائج وتداعيات مخيفة، بل حتّى ان كان هناك ثمة اسوياء اصفياء القلوب فهم سينشأون في مجتمع تتنازعة الاهواء، وتتناهبه القسوة، وتمزقه الاحقاد حتى وان بدا صورة كاذبة لجماليات متناغمة لا وجود لها ابدا.
مجتمعاتنا.. هل هي بحاجة حقا الى ثقافة الاعتراف؟
وعليه، اذا كانت المجتمعات مصابة بمثل هذا الداء او ذاك، فكيف يمكننا ان نطالب الناس فيها بثقافة الاعتذار؟ اذا كان كل الذين ينتهكون الحياة العامة او السياسية او الاجتماعية.. باخطائهم وخطاياهم يغردون ويرقصون على دماء الضحايا، فكيف يمكننا ان نطالبهم ان يجيدوا فن التسامح ويتعاملوا بقبول الاخرين؟ اذا كان المجتمع قد تربى منذ مئات السنين على اساس انه الافضل والاحسن.. فكيف به يقبل ان يخرج من معطفه ليعد نفسه تلميذا في مدرسة هذا العالم الرحب؟ اذا كانت قسمات من المجتمع قد عاشت على الحقد والكراهية نتيجة التفرقة العنصرية والاستئصال العرقي او التمييز الطائفي.. فماذا يتطلب الامر اليوم من اجل شراكة الاجيال مستقبلا؟ اذا كان المجتمع قد ورث الغلظة والجفاء والقسوة عن أرث بدوي قديم، فكيف به ينسجم مع من هو متحضّر له حسن المعشر، وسلاسة التعبير، ولطف المعاملة، ورقي التفكير؟ اذا كان المجتمع قد توارث معتقدات يعتبرها قيما اصيلة وتقاليد اساسية في حياته وتفكيره كالشعور الدائم بالتهميش، او الاحساس العميق بالظلم، او الانتصار للظالم والمظلوم او، اجارة الدخلاء والطرداء والقتلة والمجرمين، او الاخذ بالثأر مهما كانت الظروف.. ناهيكم عمّن يستخدم العادات التي تتصادم مع القوانين المدنية او العزة بالاثم.. الخ فكيف نريد من هذا المجتمع ان يتبرأ من اخطائه وخطاياه ويغدو مجتمعا ديمقراطيا؟؟ وهنا، ينبغي على الجميع الخروج من جلودهم ليعترفوا بما ارتكب من اخطاء وجنايات.. وهذا ليس من السهولة حصوله!
حكامنا.. هل يعترفون باخطائهم؟
ان الاصرار على الخطأ قد انتقل من ادران المجتمع الى ممارسات سلطوية في دول حديثة التكوين.. فهل وجدنا حاكما عربيا واحدا ـ مثلا ـ يحكم عشرات السنين ليخرج على العالم معترفا ببعض اخطائه لا كلها، وباستثناء الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في تحّمله مسؤولية هزيمة 1967 على الملأ؟ هل وجدنا حاكما عربيا واحدا يتنازل عن السلطة طواعية ليكتب مذكراته بعد سنوات ويعترف فيها بحجم ما ارتكبه من اخطاء او ما جرى على عهده من تقصير؟ فان لم نجد اعلى سلطة في البلد تقدّم للعالم quot; ثقافة اعتراف quot; او حتى اعتراف بالخطأ، فكيف ستكون المؤسسات والجهات الرسمية في تلك الدولة؟ كيف سيكون الاعلام كاذبا مواربا شعاراتيا تغلفه الاكاذيب؟ وهذا ما يسري على الاحزاب والتجمعات والنقابات وحتى في البرلمانات والمؤسسات التشريعية التي ترتكب مخالفات واخطاء ولكنها لا تعترف بها ابدا.. ان خمسين سنة مرت علينا عاشت خلالها مجتمعاتنا ودولنا (المستقلة والمتحررة) على الاكاذيب والشعارات الواهية والمفبركات الرخيصة والهزائم القاتلة والتجارب الفاشلة.. من دون ان نجد من تبّقى من اصحابها ابدا الخروج اليوم على الملأ ليعترف اعترافا شخصيا او رسميا او تاريخيا بكل ما جرى من موبقات وكبائر ومخالفات ومظالم واستلابات! وهذه تعد جزءا من quot; الاعترافات التاريخية quot; (وسأخصص معالجة منفردة مستقبلا عن طبيعة الاعتذارات التاريخية التي ينادى بها اليوم لدول ومجتمعات عما اقترف في تاريخها وما تقترفه اليوم في حاضرها من اخطاء وجنايات بحق عدة مجتمعات وشعوب).
المتغيرات الاجتماعية والزحف على القيم النبيلة
انني اجد بأن التفكير الراسخ لدى الجميع يقول بأن المسألة مطلقة من دون اي شعور بالمسؤولية، او أي ادراك بكنه الحياة، انها مسألة نسبية.. فليس هناك من هو على صواب في حياته كلها، فكل من بني آدم خطّاء وخير الخطائين هم التوابون.. هذا المفهوم المتمثل بالتوبة والبراءة من الخطأ لا يتواجد في مجتمعاتنا الا باستثناء نادر، اذ لن نجد هناك من يعلن توبته ويعترف بهزيمته الا ما ندر.. علما بأن هذا الاسلوب قد غرس في عقائدنا وادياننا، وخصوصا الاديان السماوية الثلاث. ان مجتمعاتنا قاطبة قد ابتعدت كثيرا عن التسامي في السلوك، وعن quot; عفا الله عمّا سلف quot; و quot;العفو عند المقدرة quot;، وعن quot; لا تزر وازرة وزر اخرى.. quot; وعن quot; الاعتراف بالخطأ فضيلة quot; وعن quot; نكران الذات quot; وعن تعابير رائعة، امثال: quot; لو سمحت quot;، و quot; بلا مؤاخذة.. quot;، و quot; بالاذن رجاء.. quot;، و quot; العفو منكم quot; و quot; استميحكم العذر.. quot; الخ.. ان مجتمعاتنا اليوم تؤمن ايمانا جارفا بمقولة: quot; من اعتذر اتهم نفسه وخسر سمعته quot;!! ولقد غدت تجارب المجتمعات الاخرى كلها مهمشة ومحتقرة، اذ سيطرت على مجتمعاتنا الفكرة القائلة بأن مجتمعات العالم المعاصر مادية اباحية، فلقد غابت الرؤية الانسانية وحسن التعامل ودقة المواعيد وعيب الاكاذيب وتقدم النظام وسيادة القانون واحترام الحريات ومصداقية التعبير والاعتذار عن اقل الاخطاء.. الخ باختصار ان عرفت مجتمعاتنا ثقافة الاعتذار عن الاخطاء، فانها ستفرض احترامها على دول ومجتمعات اخرى كي تقدم اعتذاراتها منها.
واخيرا: متى تترسخ ثقافة الاعتذار وفن التسامح؟
في مجتمعاتنا اليوم، الانسان يدعو الى الديمقراطية والى السلام والى حوار الثقافات والاديان.. انه يدعو الى مكافحة الارهاب واحترام الارادة وحقوق الطفل والمرأة.. انه يدعو الى المشاركة والحرية.. ولكنه لا يدرك ان المسافات لا تختزل، وان التعابير لا تختصر الا بثقافة الاعتذار وفن التسامح.. ولا يمكن ان يتسامى اي مجتمع بحضارته ومنتجاته الا ان تميز بسلوكياته السوية وانسانيته المتقدمة. ان الاجيال الجديدة بحاجة ماسة الى بناء تربوي من نوع جديد والى برامج ومناهج منفتحة.. فضلا عن بناء نزعة التسامح وقبول الاخر ومطالبة الاخر بالاعتراف بالاخطاء التي جناها بحقه.. ان اجيالنا القادمة بحاجة ماسة الى شخصية حضارية من نوع جديد لها قوتها وصلابتها ازاء التحديات، ولكن بنفس الوقت لها قدراتها على التفاعل والمصارحة.. والاصرار على تحويل الفرص المتاحة الى ميادين فهم ومعرفة.. انها بحاجة الى اعادة فهم جديد لكل ترسبات التاريخ وبقاياه المؤذية والقناعة بما هو عليه وضعنا اليوم بلا اي مكابرة او مفاخرة او معاندة.. ولكن بنفس الوقت من دون اي تفاهة او مجالدة او استسلام.. ان الاعتذار هو قمة الممانعة وان الصراحة هي ذروة العطاء وان الاعتراف هو سيد الاخلاق. فهل سنبدأ تاريخا جديدا ليس لمجتمعاتنا حسب، بل لكل هذا العالم؟
www.sayyaraljamil.com