مقدمة
بادئ ذي بدء، ليعذرني القراء الكرام ان كانت مقالاتي في ايلاف مطولة، بسبب تضمينها تحليلات ومقارنات نحن بأمس الحاجة لها، وهناك من يرغب من الاستزادة في المعلومات.. اتمنى من القراء الكرام تحمّلها ان كان لديهم الوقت والاهتمام لقراءتها، او تركها والعزوف عن قراءتها اذا كانت اوقاتهم لا تساعدهم لمتابعتها، مع اعتزازي بكل المهتمين والمتابعين والباحثين عن الحقيقة. ايوب خان
ان موضوع الباكستان لا يمكن تحليله من دون الرجوع الى معرفة الاولويات. لقد كنت اتوقف طويلا وانا احاضر لسنوات طوال في تاريخ آسيا الحديث.. عند الباكستان التي ولدت ولادة غير طبيعية اثر الحرب العالمية الثانية على يد مؤسسها الزعيم الشهير محمد علي جناح، منفصلة عن الهند بصيغة جغرافية غريبة، اذ كانت منقسمة الى شرقية وغربية. ولفظ quot; الباكستان quot; يعني لغويا: البلاد النقّية، ومن المعروف، انه بعد مضي سنوات على تكوين هذه quot; الدولة quot; غريبة الاطوار، انفصل الجناح الشرقي منها مكونا منه دولة بنغلادش عام 1971 (وزنها السكاني اليوم قرابة 150 مليون نسمة) وبقي الجناح الغربي باسم الباكستان (وزنها السكاني اليوم اكثر من 150 مليون نسمة).. وكل من الاثنتين اقتطعتا من اراضي شبه القارة الهندية، ولكن مؤسسها محمد علي جناح الذي عدّ ولم يزل مؤسسا لها ورمزا وطنيا لكيانها هو الذي سعى من اجل هذه التجزئة كي يفصل المسلمين عن غيرهم وبموافقة بريطانيا التي حكمت الهند طويلا. وكنت اقول دوما لطلابي بأن الولادة الباكستانية على اساس (ديني) غير وطني هو الذي سيفتك بها في النهاية!وعلينا ان نتساءل: اذا كانت الهند بمختلف قومياتها واديانها ومذاهبها ولغاتها لم تنقسم حتى يومنا هذا، فما الذي جعل الباكستان تنقسم الى شطرين متباعدين، سيتخذ كل شطر له هويته الوطنية؟؟ واذا كانت المبررات دينية في الانفصال، فما مصير اكثر من 200 مليون مسلم في الهند نفسها هذا اليوم؟
هشاشة التكوين الباكستاني الوطني:
اذن، فالتكوين الوطني لباكستان اصلا هو هش وضعيف بدليل انفصال بنغلادش وامتزاج التاريخ بالهند التي يبدو للدارس انها حافظت على هويتها الوطنية وتاريخها العريق مستحوذة عليه بنفسها.. وعليه فالصراع بين الهند والباكستان هو صراع الذات والهوية قبل ان يكون صراع الدين والمؤسسات، وبينهما كشمير التي كانت ولم تزل اسفينا جغرافيا دق بين الجانبين من دون اي حل يرضي الطرفين حتى يومنا هذا.. لقد اعتمدت الباكستان كثيرا على مؤسستها العسكرية منذ ولادتها بسهولة عام 1947، بل تكاد المؤسسة العسكرية الباكستانية هي الحافظة الاساسية للدولة التي اهتزت على امتداد ستين سنة بالضبط من ولادتها حتى اليوم 1947 ndash; 2007.. ولما كان محمد علي جناح مدنيا وحقوقيا، فلقد تطورت المؤسسة القضائية من خلال المحكمة العليا الباكستانية لتؤدي دور المراقب على الارض زمنا طويلا.. ونشأ شبه صراع خفي بين حافظ الدولة ومراقبها، اي بين من يمثّل عسكرتارية الدولة وبين من يمّثل حياتها المدنية.
وبالرغم من التشدق بالاسلام هوية للباكستان، بل وكانت تسمى منذ ولادتها بدولة الباكستان الاسلامية، الا انها في الخفاء كانت معلمنة المؤسسات، وكانت ولمّا تزل تظهر عكس ما تبطن كون الباكستان قد ولدت اصلا على مبدأ اسلامي فصلها عن الهند.. وكثيرا ما تجري الاتهامات من قبل الباكستانيين بعضهم للبعض لا على اساس وطني كالذي يفعله الاخرون من اصحاب الاوطان التاريخية، بل تجري دوما على اساس تهمة اخلاقية بالرشوة والفساد والقتل. وعليه فان تراشق التهم بين العسكريين والسياسيين دوما ما يتم بين طغاة دكتاتوريين وبين مرتشين فاسدين واستمرت هذه السلسلة كاللعبة التي استمرأتها ليس الولايات المتحدة وحدها، بل عدة دول اقليمية كان تدخلها سافرا في الباكستان.
صراع المؤسسات
ان الصراع بين المدنيين والعسكريين في الباكستان قد اضّر بكل من الدولة والمجتمع معا.. وكان بالامكان ان تتحّول تلك quot; الولادة quot; الهشة الى تكوين صلب بتطور دولة آسيوية مهمة جدا، وكانت قد وصلت الى اقوى ادوارها على عهد الرئيس الراحل ذو الفقار علي بوتو، ولكن الانتكاسة قد حولّتها الى ثكنة عسكرية يتلاعب بشأنها الجنرالات الطغاة.. ولقد اثبت تاريخ الباكستان المعاصر ان السياسيين المدنيين هم اخلص لمشروعاتهم من الجنرالات العسكريين الذين كانوا وما زالوا دمى بايدي دول اخرى. لقد كان الساسة والقادة المدنيون محاربين اشداء ولهم جرأتهم وشعبيتهم مقارنة بكل من الثكنة العسكرية ومن المحكمة العليا.. فالمؤسسة القضائية كانت، هي الاخرى، ترضخ دوما لارادة الجيش سرا بالرغم من علانية الاختلاف. ان القضاء الباكستاني يكون دوما حلقة اساسية بيد الجنرالات كي ينفذ لهم ما يريدون واصدار الاحكام القاسية بتهم الفساد والرشوة والاختلاسات ضد الزعماء الاحرار، وهذا ما جرى ضد ذو الفقار علي بوتو الذي ذهب ضحية الجنرال ضياء الحق من دون وجه حق بعد ادانته بتهم متنوعة.. وهذا ما جرى لابنته بنازير وزوجها بتهم التزوير والفساد والاختلاسات وحكم عليها بالاقامة الجبرية.. وهكذا بالنسبة لنواز شريف وغيرهما بعد وصل الجنرال مشّرف الى السلطة ضمن سيناريو مخادع!
تقدّم النظائر الباكستانية: وقفة عند ذي الفقار علي بوتو
لعل من اسوأ ما يتذكره الباكستانيون اهتزاز سمعتهم العسكرية اثر هزيمتهم امام الهند وتزعزع هويتهم الوطنية اثر انفصال بنغلادش عنهم بتأسيس دولة جديدة بهذا الاسم عام 1972 التي سارع العالم للاعتراف بها وفي مقدمتهم بريطانيا.. لقد كان ذو الفقار علي بوتو الوطني الباكستاني اليساري المثقف منقذا للهيبة الباكستانية امام العالم بتوليه رئاسة الوزراء، فكان ان بدأت الباكستان تستعيد انفاسها ومكانتها واستقلالها بتأييد داخلي منقطع النظير.. وعلى الرغم من استعادة الباكستان دورها، فلقد بدأت العوامل الخارجية تنخر في هياكلها ومؤسستها العسكرية التي نفّذت سيناريو جديد بعد سنوات من quot; تقدم النظائر الباكستانية quot; ـ كما كان يسميها بوتو نفسه.بنازير بوتو
لقد تدرّج ذو الفقار علي بوتو (1928-1979)، وهو ابن احد عوائل السند الثرية في المناصب الرسمية العليا، وكان منها: رئيس البلاد (1971-1973) و رئيس الوزراء (1973-1977). انه المؤسس الحقيقي لحزب الشعب الباكستاني quot;PPPquot; وأُعدم عام 1979 بعد محاكمة مثيرة للجدل. وكان يؤمن ويبّشر بما أسماه: الاشتراكية الإسلامية تارة والاشتراكية الديمقراطية تارة أخرى. وارتدى لباسا يشبه الزي الذي كان يرتديه القادة الاشتراكيون في الصين. وكان الرجل يعتبر مؤسسات المجتمع المدني صمام أمان بالنسبة للمجتمع الحر. ويدعو إلى سيطرة الدولة على المؤسسات الإنتاجية الحيوية حتى لا تشعر الطبقات الفقيرة بوطأة متطلبات التنمية. وشغل بوتو 1963 ـ 1966 منصب وزير الخارجية، فزاد من فعالية السياسة الخارجية الباكستانية ضمن دول عدم الانحياز. وتوصله إلى اتفاقية للحدود مع الصين في 2 مارس / آذار 1963 إضافة إلى تطويره لعلاقات باكستان بكل من تركيا وإيران والدول العربية.
دوره في المشكلة الكشميرية
لعب ذو الفقار علي بوتو دورا مهما في المشكلة الكشميرية إبان عمله وزيرا للخارجية، وكان يمثل دائما التيار المتشدد داخل الحكومة بصدد حل هذه القضية. واستطاع في عام 1965 إقناع الرئيس أيوب خان بالهجوم على الأراضي الكشميرية الخاضعة للسيادة الهندية وهو ما أشعل الحرب الثانية بين الهند وباكستان. ولم يستطع الجيش الباكستاني تحقيق نصر حاسم على الهند، الأمر الذي دفع بالرئيس أيوب خان إلى توقيع اتفاقية سلام مع الهند في يناير 1966 عرفت باسم اتفاقية طشقند. خرج بوتو من الوزارة عام 1966 بعد أن تفاقمت الخلافات بينه وبين الرئيس محمد أيوب خان بشأن اتفاقية طشقند. وأسس عام 1967 حزب الشعب الباكستاني واختير أمينا عاما له وحدد الأسس التي تقوم عليها المنطلقات الفكرية للحزب في النقاط التالية:نواز شريف
المحافظة على العقيدة الإسلامية، واعتبار الديمقراطية أساسا لسياسات الحزب وقيام النظام الاقتصادي على المبادئ الاشتراكية، وحصر السلطة بيد الشعب. ولقد لقي هذا الحزب تأييدا واسع النطاق لدى قطاعات عريضة من الباكستانيين وخصوصا الطلبة والمثقفين.. وراح بوتو يتهم الجيش بالتقصير في حرب 1965 ويطالب الحكومة بمزيد من الديمقراطية ويتهمها بسوء استعمال السلطة، فألقي القبض عليه واعتقل لمدة ثلاثة أشهر خلال عام 1968. لقد سببت انتقادات بوتو تنامي الغضب الشعبي تجاه حكومة الرئيس أيوب خان الذي اجبر على الاستقالة عام 1969 ليتولى السلطة بعده أغا محمد يحيى خان.
ذو الفقار علي بوتو رئيسا
هزمت باكستان في حرب 1971 أمام الهند، وكان من أهم نتائج تلك الهزيمة انفصال باكستان الشرقية تحت مسمى بنغلاديش، ولم يستطع الرئيس أغا محمد يحيى خان تحمل تبعات هذه الهزيمة فقدم استقالته ليتولى الحكم من بعده ذو الفقار علي بوتو الذي فاز حزبه بأغلبية الأصوات في باكستان الغربية أثناء الانتخابات البرلمانية التي كانت قد جرت في ديسمبر/ كانون الأول 1970. وخلال تولي بوتو الرئاسة كان من أهم إنجازاته:ذو الفقار علي بوتو
اولا: اتخاذ عدة إجراءات وقرارات هامة لتحديث الصناعة الباكستانية عموما من ناحية وفرض سيطرة الدولة على الصناعات الرئيسية من ناحية أخرى.
ثانيا: وهناك قرار انسحاب بلاده من الكومنولث بعد اعتراف بريطانيا والدول الغربية بدولة بنغلاديش الجديدة.
ثالثا: وهناك نجاحه في حصول باكستان على مفاعل ذري من فرنسا وهو ما أثار أزمة داخل المعسكر الغربي آنذاك.
رابعا: وهناك توصله عام 1972 إلى اتفاقية سياسية مع الهند عرفت باسم quot;اتفاقية شملاquot; مهدت الطريق أمام استعادة باكستان الأراضي التي سيطرت عليها الهند في حرب عام 1971. وانتهاء مشكلة أسرى الحرب الذي ألقت الهند القبض عليهم في باكستان الشرقية عام 1971.
خامسا: تشجيع صناعة الحديد والصلب في باكستان.
سادسا: تأميم كل البنوك العاملة في باكستان.
سابعا: استضافة بلاده للقمة الثانية للدول الإسلامية التي بلغ عدد الحضور آنذاك 38 دولة.
ذو الفقار بوتو رئيسا للوزراء
وفي عام 1973، وبعد أن أقرت الجمعية الوطنية دستور البلاد، أصبح ذو الفقار علي بوتو رئيسا للوزراء، فشكّل ذلك هاجسا بالنسبة للغرب وخصوصا الادارة الامريكية. لقد شهدت باكستان حالة من الفوضى والاضطراب، وزادت حدة المعارضة الإسلامية ضد الرئيس بوتو الذي نكّل بخصومه الذين انتقدوا توجهاته الغربية العلمانية، وزادت حدة الاضطرابات السياسية في الباكستان وتدهور الوضع السياسي، وسقط حوالي 350 قتيلاً وآلاف الجرحى من جراء العنف السياسي الذي لم يكن بوتو بمسؤول عنه، وقتل احد الرموز الدينية الباكستانية المدعو مولانا مفتي محمود والد الزعيم الديني المعارض مولانا فتح الرحمن، وكان هناك من يصفق خارج الباكستان لما كان يحدث ضد نظام الحكم الذي كانت له استقلاليته ووطنيته بتعريف اغلب المراقبين. هنا، دعا الرئيس بوتو الجيش إلى التدخل لمواجهة أعمال العنف والشغب، وقمع المظاهرات وتأييد نظامه، إلا أن بعض ضباط الجيش، وخاصة القادمين من إقليم البنجاب، رفضوا قمع المظاهرات والاصطدام بالشعب وإطلاق النار على المتظاهرين، وكانت تلك هي النواة التي رقص لها من كان يعادي نظام بوتو. ولقد تهيأت لضياء الحق فرصة القيام بانقلاب عسكري ضد الرئيس بوتو في 5 يونيو/ يونيو 1977، وأعلن أن الجيش قام لوضع حد لحالة التدهور التي تجتاح البلاد، والتي عجز الرئيس بوتو عن حلها، وخشية من إقحام بوتو للجيش في السياسة واستخدامه في عمليات القمع.
انقلاب ضياء الحق وتداعياتهجنرال ضياء الحق
كان بوتو هو الذي اختار ضياء الحق رئيسا للاركان بدل من كان اعلى رتبة منه لاطمئنانه له ومسالمته اياه، اذ كان يلاعبه الغولف من دون ان يعلم ما الذي سيفعله هذا الاخير!وهكذا، عندما بلغ القلق السياسي في الباكستان أقصى مداه بسبب النزاع الذي كان يدور بين بوتو وقيادة التحالف الوطني الباكستاني بشأن قضية الانتخابات العامة، اغتنم الجنرال ضياء الحق الفرصة، وقام يوم 5 يوليو/ تموز 1977 بانقلاب أبيض أطاح فيه بحكومة ذو الفقار علي بوتو وفرض الأحكام العرفية في البلاد. وعند ذاك، صفق له الغرب وفرح المسلمون في حين حزن جل الوطنيين والتقدميين لضياع التجربة التي بناها ذو الفقار علي بوتو الذي سيظهر في ما بعد قائدا نظيفا ومخلصا..
اعدام ذو الفقار علي بوتو شنقا
لقد قاد ضياء الحق إنقلابه على حكومة حزب الشعب الحاكمة عام 1977 وسجن زعيمها ذو الفقار علي بوتو بتهمة قتل مولانا مفتي محمود، وجرت له محاكمة شهيرة وقف بوتو فيها صلبا وشجاعا ومدافعا عن مبادئه ووطنه وسياسته ومنجزاته.. ثم حكمت عليه المحكمة بالإعدام. لقد جرت اتصالات عدة من قبل دول عدة لانقاذ رقبة بوتو من الشنق، ولكن ضياء الحق لم يقبل باية طلبات دولية عديدة لتخفيف الحكم وأعدم ذو الفقار بوتو شنقاً حتى الموت في السجن في 4 أبريل / نيسان 1979. كان هناك من رقص لذلك الحدث المرير، وقد أيّد الإسلاميون ضياء الحق في أول الأمر، اذ كانت الموجة الاسلامية عاتية، فلقد كان الامام الخميني قد عاد الى إيران يوم 1 فبراير/ شباط 1979، اي قبل نجاح الثورة الاسلامية في إيران بعشرة ايام، وانهار النظام الشاهنشاهي وقامت الجمهورية الاسلامية الايرانية جوار الباكستان. وعليه، فان اعدام بوتو جرى بعد اقل من شهرين على ذاك التغيير التاريخي الذي سينقل الشرق الاوسط الى مرحلة جديدة تختلف بالكامل عن المرحلة السابقة!لقد شارك الاسلاميون في أول وزارة بعد انقلاب ضياء الحق، فتسلم وزارة الإعلام أحد أعضاء الجماعة الإسلامية، وكان quot;طفيل محمدquot; أمير الجماعة الإسلامية، وهو خال ضياء الحق وكان على صلة وثيقة به، غير أن هذه العلاقة بدأت تتغير عندما قوي نظام ضياء الحق فكان يلتقي بهم ولا ينفذ شيئا مما يطلبونه، ويتعلل بأن له شركاء في المجلس العسكري ولا يستطيع فرض القرارات والمواقف عليهم.
سنة 1979: مفصلا تاريخيا في تحولات الشرق الاوسط
عاد العسكريون في الباكستان الى السلطة من دون اي حياء وكأنهم لم يهزموا امام الهند.. انني اعتقد ان سياق الاحداث الداخلية كانت تتبلور ضمن مخطط تقوده الولايات المتحدة الامريكية التي كانت تخطط لثلاثين سنة قادمة.. وكانت الباكستان جزءا اساسيا من الشطيرة التي حاول كيسنجر قبل سنوات ان يجد المشطور لها في الشرق الاوسط، وما سيسند للباكستان من ادوار خفية وعلنية للمشروع الجديد. وكنت ولم ازل اعتبر العام 1979 مفصلا تاريخيا في التغيير الذي قاد منطقة الشرق الاوسط الى أساليب ورهانات عدة سواء في ايران بزوال النظام الشاهنشاهي، ام الباكستان في اعدام ذو الفقار علي بوتو، ام افغانستان في الانقلاب الشيوعي وتدخل السوفييت في آخر يوم من العام المذكور، ام العراق بتسلم صدام حسين مقاليد الرئاسة وغدا سيّدا للعراق بلا منازع. كتب مدير ال CIAالسابق روبرت غيتس في مذكراته المعنونة quot;من الظلالquot;، أن المخابرات الأمريكية بدأت بمساعدة الحركات المعارضة في أفغانستان قبل 6 أشهر من التدخل السوفييتي. وفي 3 يوليو 1979، وقع الرئيس الامريكي جيمي كارتر توجيها يخول لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية القيام بحملات دعائية لأجل quot;تحويلquot; موقف الناس من الحكومة الثورية. أدت هذه المعلومات إلى تجدد النقاش حول كيفية بدء الحرب. فمؤيدوا التدخل الأمريكي يدعون أن نوايا الإتحاد السوفييتي بالسيطرة على أفغانستان كانت واضحة، مستشهدين بنظام بريجينيف الدكتاتوري. بينما يؤكد المعارضون أن الولايات المتحدة الأمريكية أعطت الإتحاد السوفييتي بشكل متعمد حجة حرب لجرهم في صراع لا يمكنهم ربحه، وذلك على حساب أفغانستان.
ضياء الحق: ضرورة امريكية
تعد افغانستان بلدا مغلقا متخلفا، وقد اصبح بؤرة للصراع بين القوتين العالميتين: الامريكية والسوفييتية، فاذا كان السوفييت على حدود الافغان الشمالية يراقبون تنفيذ سلسلة الانقلابات والحرب الاهلية، فلقد غدت الباكستان مخلب قط امريكي لسنوات طوال، اذ تعد حرب أفغانستان آخر حلقة من نزاعات الحرب البادرة، وكان الثمن ان انجزت باكستان الفقيرة قنبلتها النووية في سباق مضحك مع جارتها الهند ليس لخلق توازن في التسلح كما اشيع، ولكن من اجل ان يفتخر الباكستانيون امام الهنود انهم يطاولوهم في الحرب النووية، كما كان حال العراقيين يشابههم امام الدول العربية، وكانت فرنسا وراء ذلك quot; المشروع quot; الباكستاني كما كانت وراء مشروع العراق النووي في اوزاريس، علما بأن الهند بقيت العدوة التقليدية للباكستان بسبب اقليم كشمير الذي تثيره الباكستان دوما لاقلاق راحة الاخوة الاعداء!
نعم، كان الجنرال ضياء الحقّ ضرورة امريكية ازاء السوفييت في افغانستان وازاء العراق ضد ايران، وكلنا يعلم الزيارات المكوكية له للعراق وقد اسس بمساعدة الامريكيين حكما فرديا بلا مؤسسات اذ جعل المؤسستين العسكرية والقضائية طي اراداته المستندة الى الولايات المتحدة وحلفائها في الخارج.. وأخذ يقّرب نفسه كثيرا من الجماعات الاسلامية التي كان دورها يتصاعد مثل الصاروخ بفعل ما كان يشيعه الاعلام والكتّاب السذج من عبارات الصحوة الدينية ابان الثمانينيات، وكان على رأس المقربين من ضيا الحق، حزب مولانا أبو الأعلى المودودي. وقت ذاك، وقت ذاك لم اكن ادرك سر المديح الذي يكيله الاسلاميون للجنرال ضياء الحق، وكأنه الرجل المخّلص للاسلام والمسلمين!
رحيل ضياء الحق بعد الانتفاء الحاجة منه
عرضت واشنطن على ضياء الحق شراء بعض الدبابات الأمريكية، وأحضرت بعضها إلى الباكستان لرؤيتها ومعرفة مزاياها القتالية على الطبيعة. وتحدد يوم 17 أغسطس / آب 1988 موعدًا لاختبار هذه الدبابات (اي بعد تسعة ايام فقط من توقف اطلاق النار بين العراق وايران على مدى ثماني سنوات عجاف في 8/8/1988). فخرج الفريق ضياء الحق وبعض كبار القادة من مرافقيه، يرافقهم السفير الأمريكي في الباكستان أرنولد رافيل والجنرال الأمريكي هربرت واسوم وكانت الرحلة في منتهى السرية. بعد معاينة الدبابات، انتقل الرئيس ومرافقيه إلى مطار بهاوالبور لينتقلوا منه إلى مطار راولبندي واستقلوا طائرة خاصة. وما إن أقلعت الطائرة، حتى سقطت محترقة بعدما انفجرت قنبلة بها وتناثرت أشلاء الجميع محترقة. ويُعتقد أن الانفجار كان قد وقع في صندوق هدية من ثمار المانجو، وقد وضع في حوامته العسكرية، لما كان يُعرف عنه من حبه لتلك الفاكهة الاستوائية.
دور الباكستان في متغيرات افغانستان
لقد اصبحت الباكستان مهيأة للتدخل السافر في افغانستان في العام 1980 بحكم احتلال السوفييت لها اثر دعمهم لاكثر من نقلاب شيوعي فيها عام 1979 وعملا باتفاقية ثنائية كان الرئيس تراقي قد وقعها معها، وبدت الباكستان اداة حديدية او مخلب قط للولايات المتحدة في صراعها مع الاتحاد السوفييتي الذي دعم الانقلابات الشيوعية هناك، وتدخل في آخر يوم من عام 1979 عسكرياً لحماية الشيوعيين الذين استولوا على السلطة. وشهدت الباكستان تطورات سياسية بعد مصرع ضياء الحق، ومع تجربة الديمقراطية التي وصلت من خلالها بنازير ابنة ذو الفقار الى سدة الحكم، ومجئ نواّز شريف من بعدها.. كانت الباكستان ابان حكم الاثنين قد قدمت مساعدات كبرى للمقاتلين (المجاهدين) المسلمين ضد السوفييت، بل ونشأت طالبان نفسها في احضان الباكستان، وكانت الباكستان معبرا اساسيا نحو افغانستان.. ان تداخلا اجتماعيا وسكانيا كبيرا بين البلدين وخصوصا في اقاليم الحدود بشراكتهما قبائل البشتون الكبرى.. كانت الباكستان قاعدة (او: قواعد) حقيقية للانطلاق في تحرير افغانستان من السوفييت، وقد آوت الباكستان العديد من اللاجئين الافغان الذين قدر عددهم بمليوني افغاني، وقامت الباكستان بارسال عشرات ألالوف من المقاتلين إلى داخل جبهة أفغانستان أيام تلك التظاهرة الاعلامية والسياسية باسم quot;المجاهدينquot;، ولما كانت قوة طالبان قد ولدت ونمت وتطورت في الباكستان، فلقد أرسلت كلَّها عام 1995 الى افغانستان، وقد اشتركت حكومة بنازير في ذلك quot; المهرجان quot; التاريخي.
برويز مشّرف: صورة مستنسخة باطار مختلف
لقد كانت الباكستان وستبقى ضرورة امريكية.. وكما جاء الجنرال ضياء الحق عام 1976 ضد ذو الفقار علي بوتو، جاء برويز مشّرف يحكم الباكستان عام 1999 ضد نواّز شريف، فحكم البلاد من خلال الجيش، لكنه اختلف مع مؤسسة القضاء، وقد لقي هذا القادم الجديد دعما واسع النطاق من الولايات المتحدة الامريكية وقدم لها خدمات كبيرة علما بأنه ضعيف الكفاءة من الناحية السياسية.. انه يقدّم دوره الذي لا يعرف بالتحديد متى سينتهي، خصوصا وان كارثة باكستان الان لن تصيب مؤسسات الدولة العسكرية والقضائية، بقدر ما ستصيب المجتمع الذي ازدحم كثيرا بالتيارات المتشددة التي لا تعرف غير لغة التفجير والقتل والتفخيخ. لقد ادى مشّرف دوره في افغانستان، علما بأنه اختلف عن كل من سبقه في حكم الباكستان بسبب التبدلات الجذرية التي اصابت منطقة الشرق الاوسط باكملها.. ان المؤسسة العسكرية الباكستانية الان مهتزة كثيرا وكذلك المؤسسات المدنية التي لا تعرف جميعها كيف تتصرف مع جموع هذه الملايين التي لا تعرف غير لغة التشدد والحرق والقتل!ان مشّرف لم يكن متشددا اسلاميا، وناصب حتى المعتدلين العداء، فاطلقت عليه اوصاف الكفر والالحاد والعمالة للامريكيين، واشترك الملايين في تدبيج التهم من مؤيدي الحكم المدني وخصوصا الالاف المؤلفة من مؤيدي بوتو ونواّز..
النار الجبلية تمتد في الانفاق الباكستانية
ان الباكستان على عهد مشّرف قد نضجت فيها وعلى مهل شديد كل القوى المتشددة، ولم نجد اي اثر حتى للمعتدلين بسبب تزايد تضخم التشدد والمتشددين الذين تورّموا كثيرا في البنجاب والسند ومن غلاة البشتون.. من السنة ومن الشيعة بفعل غزو افغانستان عام 2002 وغزو العراق عام 2003. ان تفاقم الأصولية الإسلامية والجهادية الإسلامية في أجواء الحرب الأفغانية والحرب العراقية اذ انعكس ذلك تماما على الباكستان والتي غدت مرشحة للانفجار والانقسام بعد حريق هائل. ان الدور الذي لعبته الباكستان في الماضي بخلق طالبان قد انعكس عليها بالضد منها الان لتغدو بنازير ضحية للادوار التي كانت لها في بلورة طالبان قبل اكثر من عشر سنوات.. ان طالبان صناعة الاستخبارات الباكستانية في البلد المجاور، وكانت الباكستان ولم تزل دستوريا تعتبر حامية للاسلام والمسلمين من دون ان تلتفت للتيارات العلمانية والمدنية. ولما اعلنت بنازير قبل ايام عن مشروعها ضد المدارس الدينية التي تخّرج القتلة ـ على حد تعبيرها ـ ولم يمهلها الاخرون الا اياما لتذهب صريعة المبادئ التي نادت بها، والتي نادى ابوها بها من قبل!
لقد اصبح برويز العدو رقم واحد بالنسبة للاسلاميين كلهم.. ان تحالفه مع الولايات المتحدة عقب احداث 11 سبتمبر/ ايلول 2001 جعلته يخرج عن طوره، فاقصى الاحزاب واسكت القضاء، وقيّد الصحافة وبدأ بملاحقة كل المخالفين والمعارضين. وكان يتلقى التشجيع من الولايات المتحدة الامريكية ويزداد تبخترا عندما يربت الرئيس بوش على كتفيه.. لقد ادخل نفسه في نفق يصعب الخروج منه، مع زيادة الاضطرابات بضغوط واسعة النطاق، واصبحت الباكستان ساحة نفايات لجمع الوقود القابلة للاشتعال في اية لحظة.. فما كان منه الا الاعلان عن انهاء الأحكام العُرفية، وعن عودة الحكم المدني والدستور وحكم القانون، من اجل البقاء رئيسا للبلاد، وما دام يضمن ولاء الجيش كونه القائد الاعلى ويخشى سطوة المعارضة سواء الاسلامية ام السياسية وبقاء الدعم الامريكي اذ اعتبر نفسه مصدقا الاخرين انه بطلا للحرب على الارهاب.. مما اسقطه تماما من نظر كل الاسلاميين الذين بدأ حملة ضدهم سواء كانوا في المدن ام في الجبال.. سواء كانوا من المتشددين المتغطرسين ام كانوا من المعتدلين المتعاطفين!
هل ستنفع جرعات التغيير مع بلادة التفكير؟
بدأ برويز يفكر بالبقاء في السلطة منذ بدايات 2007.. ولما كان الامريكيون لا يريدون اشتعال الباكستان الان سواء مع برويز ام من دونه، فلقد نصحوه ان يبتعد عن الجيش ويلبس بدلته المدنية ويسّرح شعره ويستعين بالقادة المدنيين.. فوافق على استحياء مع شعوره بالمهانة ان يجلس مع السيدة التي كانت تعارضه دائما، وهو يدرك قوة السيدة الراحلة بنازير بعد ان صافحها وصالحها وفتح الابواب امامها.. ومن ثم رضخ لارادة خصمه اللدود الاخر نواز شريف كي يأتي كل منهما ويستقبلان استقبال الابطال وبرويز يشاهد على مضض ما يحدث معروضا على شاشات التلفزيون.. وغدا برويز لوحده كئيبا في الميدان بعد ان وصف نفسه على خط النار ـ في كتابه الذي درسته في مكان آخر ـ وبعد ان ابتعد عن بدلته الخاكية، شعر بأنه لم يعد رجل الباكستان الاول.. وليس له الا ما يقوله هذا او ذاك له من الامريكيين.. ومن اجل حماية الدستور حتى وان كان ذلك شكليا، قبل مبدأ التعددية السياسية، وراهن على فشل القادة من المدنيين باذكاء الصراع السياسي الحاد بين نواز شريف وبنازير بوتو.
واخيرا: مصرع ابنة باكستان الشجاعة
ولما كانت بنازير بوتو قد امتلكت شعبيه هائلة، وقدمت لأول مرة وتحّلت بالشجاعة والجرأة واثبتت وطنيتها على ترابها، فمن المؤكد انها ستغدو سيدة باكستان الحقيقية بعد ان اعلنت مشروعا للعلمنة وادانت المدارس والتيارات الدينية واستمرت تغمز ضد خصومها الحاكمين من العسكريين.. وكان يوم الخميس، ولم ترحل سنة 2007 بعد، في السابع والعشرين من ديسمبر / كانون الاول 2007 موعدا لباكستان مع اقدار التاريخ عندما لقيت بنازير الابنة الشجاعة للاب بوتو الشجاع مصرعها في عملية هجوم انتحاريٍ مؤلم ليتفرق دمها بين القبائل بعد ان قادت نفسها بخطواتها الوئيدة نحو حتفها.. ولقد احزن موتها وفقدانها العالم كله بما فيهم خصومها السياسيين!ولا يمكن التكهن بمن كان وراء مقتلها فالكثيرون هم اصحاب مصلحة عندما تغيب بوتو في مثل هذا الوقت بالذات والبلاد النقية مقبلة على جحيم لا يطاق لا نتمناه ابدا للباكستان.. ان على برويز مشرّف اليوم قبل اي يوم مضى ان يحسم امره ويحزم حقائبه ويغادر اروقة القيادة السياسية.. بعد ان تغدو الباكستان بايدي مدنية وان يقف على رأسها قائد له حكمته وله ارادته وله استقلاليته ووطنيته وتفكيره الحضاري.. ان النار الجبلية ان زحفت نحو الباكستان، فستعم الفوضى كل مكان فيها، وستطوف الباكستان ـ لا سمح الله ـ في بحر دماء.. وسيكون الشرق الاوسط كله عرضة للنار والهشيم، فمن سينقذ الباكستان ويرجعها الى حقيقتها، وحقيقتها هي كما تسميتها: البلاد النقية؟
www.sayyaraljamil.com
اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات