تعرض إحدى القنوات الفضائية مسلسلاً تلفزيونياً بعنوان quot; أبو جعفر المنصورquot; وهو مكرس لحياة الحاكم العباسي الشهير وباني بغداد مدينة السلام. ولكن من وجهة نظر إصلاحية ونقدية نجد أن شخصية الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز توجت بدايات هذا العمل واحتلت مكانة يصعب نسيانها لقوة هذا الخليفة ومحاولته المحفوفة بالأخطار لإصلاح ما خربه ذووه من أمور الدين والدنيا. وإضافة الى ذلك نذكر مسلسل quot;سعدون العواجيquot; الذي يعالج حياة القبيلة البدوية في فترة تاريخية قريبة ويلقي الضوء على قيم وتقاليد البداوة التي نعيشها، بشكل أو بآخر، حتى يومنا هذا. وفي الحقيقة لم تخل أعمال السنوات الماضية من مثل هذه المحاولات، إنما طفت على السطح هذا العام محاولة جهات معينة ممارسة ضغوط كبيرة لكي تتخلى القنوات الفضائية المعنية عن بثها لمثل هذه المسلسلات ضمن برامجها الرمضانية لهذا العام (إيلاف 31 آب ndash;أغسطس- 2008) بحجة نشرها للتفرقة وإثارتها للفتن وما الى ذلك من مبررات تدل على عمق الأزمة التي نعيشها إزاء أنفسنا وتاريخنا.
لذلك وبدون ذكر الأسماء ينبغي شكر القائمين على إنتاج مثل هذه المسلسلات الهادفة لكونها تساهم في إلقاء الضوء على ظلمات وعينا الأسطوري الذي نغطّ فيه منذ زمن بعيد رافضين أية محاولة لتفكيكه وتأسيس وعي عقلاني نقدي على أنقاضه. وأتعرض هنا بشكل خاص لمسلسل quot;أبو جعفر المنصورquot; عند تطرقه للخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز وسياسته الاصلاحية القائمة على رد المظالم وإحياء مبادئ العدالة واحترام القيم الإنسانية وفي مواجهته للعصبية القبلية التي شكلت أحد أهم أسس الحكم الأموي. وإذا اتفقنا على أن احترام القيم الإنسانية وتطبيق العدالة ولو نسبياً يشكل أساس الشرعية وضمان الاستمرار (أرسطو) لأي نظام حكم في العالم فيجب علينا الإقرار بأن الثورة التي جاءت بالعباسيين الى الحكم ما كانت لتحصل لو لم يُقتل عمر بن عبد العزيز بالسم، بعد ثلاث سنوات من وصوله الى العرش الأموي، فحال ذلك دون استمرار حكمه العادل وquot;عادت حليمة الى عادتها القديمةquot;. وينقل لنا هذا العمل الفني كيف عاش العباسيون أزمة داخلية بسبب عدالة هذا الخليفة، حيث تساءلوا عن مشروعية عملهم الدءوب للوصول الى الخلافة التي أصبحت خلافة بالاسم أي سلطة يحلم بها أصحاب الطموح السياسي بعيداً عن مقتضياتها الشرعية والإنسانية. وأذكر هنا بأن الكثيرين اعتبروا عمر بن عبد العزيز وبحق خامس الخلفاء الراشدين وهو أيضاً بطل استثنائي في ظلمات العهد الأموي الذي أعاد تحكيم العصبية القبلية في حياة المسلمين عموماً والعرب بالخصوص.
الأزمة القاتلة والحلقة المفرغة لقد استفحلت الأزمة التي عاشها عمر بن عبد العزيز مع أقربائه من طبقة الأمراء الأمويين، أصحاب الامتيازات السياسية والاقتصادية، حتى انتهت الى قتله غيلة كما ذكرت. وهكذا عادت الدولة الاسلامية الى المربع الأموي الذي أنهى الخلافة الراشدة وتميز باستبداد العصبية الأموية بالأمة وثرواتها باسم الشرعية المزعومة لخلافة قريش، وكذلك بازدياد سخط المحكومين واندلاع الحروب الداخلية التي لم تتوقف طيلة فترة حكمهم. ولكن العباسيين ساروا على quot;هديquot; سابقيهم بل تفوقوا عليهم باللجوء مثلاً إلى استخدام الجنود المرتزقة من الأجانب (لاسيما الأتراك) لحماية حكمهم وفي فترة ضعفهم كرس السلاجقة والبويهيون التطور الاستبدادي للحكم ثم أدخل السلاجقة الاستبداد الشرقي في تنظيرهم للحكم quot;الصالحquot; وكان ذلك على يد الوزير نظام الملك. وهكذا استمرت أزمة العلاقة بين الحكام والمحكومين في شبه حلقة مفرغة أضعفت هذه الأمة رغم عطائها الثقافي والحضاري الكبير والذي كان الاسلام، كدين إنساني لا تسلطي، سبباً أساسياً فيه. وتبدأ هذه الحلقة بظلم الحكام واغتصابهم حقوق المحكومين وثرواتهم مما يؤدي إلى تفاقم السخط فالغضب فالاصطدام المسلح وما يعنيه ذلك من سفك للدماء وتخريب للزرع والعمران، فأما أن يستمر الحاكم بعد قضائه على المتمردين عليه أو ينتصر هؤلاء عليه فيقيم قادتهم حكماً مماثلاً وهكذا دواليك لعدم تطوير أساليب مشورة دستورية وقائمة على الانتخابات كما حدث في الغرب تدريجياً. لقد استمر هذا النموذج في الزمان، من حيث توالي حكومات الاستبداد كما ذكرت وانتشر كذلك في الفضاء السياسي/الاجتماعي حيث تأسست الدويلات وأعاد الولاة المنشقون إنتاج نموذج المركز أي الاستبداد القائم على عصبية تحقق الغلبة لها بالقوة المسلحة.
وهكذا ترسخ مبدأ الوصول الى السلطة باستخدام القوة المسلحة من قبل العصبيات القبلية القوية في هذا الحين أو ذاك لإزاحة سابقاتها (ابن خلدون) وإقامة مجتمع يتحكم فيه الماسكون بالقوة العسكرية (أي العسكرتارية بالمصطلحات الحديثة) وذلك بغض النظر عن قوتهم أو ضحالتهم في المجالات الفكرية والإنسانية. وقد طبع هذا الموروث (الاستبداد والعصبية القبلية وحكم الجهلة) بيئة الثقافة السياسية التي تفسر في نظري بدرجات مختلفة أزمة الحداثة المستعصية في مجتمعاتنا العربية. وهي أيضاً وبكل أسف أحد مصادر التفكير المتعصب الذي يبرر استخدام القوة حتى ضد المدنيين العُزّل (ممارسة الإرهاب) إذ يستمد هؤلاء المجرمون المعتوهون شرعية زائفة من ممارسات الكثير من قادة سابقين لدول ودويلات مسلمة اعتمدت سفك الدماء وسيلة للوصول الى الحكم والاستمرار به وبررت ذلك بمجرد إقامة حكم الشريعة ثم يصفوها بالسمحاء وهي كذلك فعلاً ولكنهم كذبوا بادعائهم الانتماء إليها فهم أعداؤها وأعداء القيم التي دافع عنها الأنبياء والمصلحون ومنهم عمر بن عبد العزيز (رض).