quot;الدين هو الشعور بالتبعية المطلقةquot; (شلايرماخر)
ربما يعيش الإنسان اليوم في عصر قد يطلق عليه تسمية ما بعد الدين وربما قد لا يحتاج في هذا الزمان إلى الاعتقاد بقدر احتياجه إلى الإيمان الذي يأتيه ثمرة الشك وبعد عناء التفكير.
إذا حاولنا تعريف لفظ الدين فإننا لا نجد حدا جامعا مانعا وكل ما نعثر عليه هو بعض الممارسات الجماعية الرمزية في علاقتها بمفهوم المقدس وبعض التجارب الفردية الناتجة عن معايشة وضعيات قصوى وانفرادها باستراق السمع لنفحات من الغيب.
لكن الدين في حد ذاته كمنظومة متكاملة تشرع للناس نمط علاقتهم بوجودهم وببعضهم البعض كرؤية للحياة والموت والبعث فانه يظل موضع خلاف ولذلك ما انفكت المذاهب الدينية تظهر وتتزايد يوما بعد يوما بل ان التاريخ يحمل لنا بين الفينة والأخرى ميلاد فرقة تنضاف إلى الفرق الأخرى المنتمية إلى نفس الدين، إذ كيف نفسر تكاثر أتباع ديانة عبادة الشيطان في ظل وجود الأديان التوحيدية الكبرى؟ وكيف نفهم انتشار البهائية والقديانية والأحمدية والقرآنيين داخل الفضاء الإسلامي في ظل تقاسم النفوذ والسيطرة فيما يتعلق الاعتناء بالمقدس الإسلامي بين السنة والشيعة؟
يرى شلايرماخر وهو رجل دين بروتستانتي ليبرالي ألماني أن الدين هو شكل من أشكال الظهور والتجلي بالنسبة للروح البشرية ينبغي للناظر أن يحترم خصوصيته ويبقي على استقلاليته خارج عن كل من المعرفة والقانون والأخلاق والسياسة على الرغم من أنه يحتوي على عناصر معرفية وقانونية سياسية وأخلاقية. فالدين ليس معرفة ولا فعل ولا مركب من الاثنين رغم أنه في تمظهراته العينية لا يبدو في صفائه ونقاوته، كما أن له نفس موضوع الأخلاق والميتافيزيقا أي الكون ومنزلة الإنسان فيه.
ان الدين عند المؤسس الأول للهرمينوتيقا كنظرية فلسفية هو خضوع الروح للامتناهي وذلك لحظة جمعها بين الحدس والإحساس، حدس من طرف المتناهي للامتناهي وإحساس اللامتناهي بالمتناهي.
يوجد الدين فوق تناول المعرفة الموضوعية وبعيد عن تشويهات الممارسة وليس في متناول إدراك الفكر التأملي.
يتكون الدين كتجربة أصلية من عنصرين متنافرين هما الحدس والإحساس، الظاهر والباطن، المصرح والمضمر، البيان والعرفان، البرهنة والحجاج، انه انغماس بالروح في العمق قصد الاتحاد بالمطلق.
يرجع الدين إلى طبيعتين:
- طبيعة خارجية هي العبادات والطقوس والشعائر.
- طبيعة داخلية هي التأمل الباطني ومعايشة لحظات الانبثاق الأولى وتحلى المطلق للخلق.
يكون الإنسان أثناء التجربة الدينية في نفس الوقت مرآة وانعكاس للكون ولكنه مغمور بالإحساس بعظمة المطلق ويشعر باحترام كبير لكل ماهو أبدي وجليل.
ان المفاهيم الدينية والمعتقدات الموروثة هي ثانوية بالمقارنة مع التجربة الدينية الحية العفوية والمباشرة والتي يشعر من خلالها المرء بصلة مباشرة بمبدئه.
من هذا المنطلق يرى شلايرماخر أن مسائل وجود الله وخلود الروح والرحمة والمعجزة والوحي والنبوة والإلهام كلها ظواهر ليس لها معنى إلا من خلال انخراط الإنسان في التجربة الباطنية للدين عبر الإحساس والحدس والمشاركة مع المطلق.
ذهب شلايرماخر في كتابه quot;أحاديث عن الدينquot; إلى القول بوجود quot;دين عالميquot; وبذلك أصبح من المستطاع انطواء جميع quot;كفارquot; العصور الغابرة وزنادقتها ورافضي وجود آلهتها تحت لواء هذا المثل الديني الأعلى. وذكر شلايرماخر أن سائر الاختلافات الدغمائية تبدو غير ذات موضوع في ظل وجود مشاعر دينية حية وحقيقية. ان الدين الحق يقوم على المحبة، ولكن هذه المحبة لا تتجه إلى هذا أو ذاك أو إلى موضوع متناه أو خاص، أنها تتجه إلى العالم، إلى اللاتناهىquot;.
في هذا السياق:quot; دين دون اله يمكن أن يكون أفضل من دين له الهquot; ويقصد بذلك أن إدخال الله إلى العالم هو أفضل من وضعه في مكان ما خارجه.
مهمة الدين هو مساعدة الإنسان أثناء سيره في الكون ولذلك ينصح بتعلم الإنسان للدين ولا يكون تعلمه عبر حفظ جملة من القواعد والتطبيقات المتماثلة بل من خلال إيقاظ مجموعة من الاستعدادات في وجدان الإنسان تؤهله للاطلاع على العناصر ما فوق طبيعية.
قام شلايرماخر بتوسيع مهمة الهرمينوتيقا من دائرة المكتوب لتشمل الخطاب بشكل عام بما في ذلك المحادثة والإصغاء ودعا إلى فهم النصوص الدينية خارج إطار المذهب والتزم بفن في الفهم يجمع بين التأويل النحوي القواعدي والتأويل النفسي الجمالي في إطار حركة دائرية بين الكل والأجزاء وينطلق من مبدأ شهير يقوم على التماهي بين الكاتب والقارئ أي أن المؤول يفهم النص تماما مثلما قصد مبدعه.
اللافت للنظر أن تعريف شلايرماخر للدين في نهايات القرن الثامن عشر على أنه quot;الشعور العجز المطلقquot; وقع التخلي عنه وإهماله بعد الثورة العلمية وسيادة الحداثة ومبادئ التنوير خاصة وأن الإنسان بعد كل القدرة على السيطرة والتحكم التي حصل عليها في العصر الحديث نتيجة التطور العلمي والتقني لم يعد بحاجة إلى الدين وما يتضمنه من مقدس و إيمان.
بيد أن انتكاسة مشروع الحداثة وعودة العقل الغربي على نفسه مفككا بديهياته ومتسائلا عن صلاحية مبادئه وبالتالي حلول زمن ما بعد الحداثة وما أفرزه من حيرة معرفية وارتباك منهجي وغياب للقيم وتدنيس للمقدسات وفراغ أكسيولوجي، كل ذلك أدى إلى التفكير في استعادة التجربة الروحانية وإعادة الاعتبار إلى تعريف شلايرماخر للدين على أنه شعور بالتبعية المطلقة والعجز الإنساني أمام القوى الخارجية.
عندئذ ألا ينبغي على الإنسان أن يبحث عن الإبداع الحر بوصفها الينبوع المتفق للإيمان من أجل استعادة زمام المبادرة ومحاكاة اللامتناهي والتغلب على تناهيه؟ ثم لماذا قرر شلايرماخر أن الهدف من مشروعه الهرمينوتيقي quot;هو فهم كاتب على نحو أفضل مما فهم هو نفسهquot;؟ ماذا لو كان النص هو كتاب منزل والكاتب هو الله؟ هل يعني ذلك أن الإنسان غير قادر على معرفة مقاصد الشارع في كتابه وأن التأويل المقاصدي لم يعد له مكانة ضمن المشروع الهرمينوتيقي قد يشجع على الاعتقاد والتدين ولكنه لا يمثل أقوم المسالك الموصلة إلى الإيمان الحي؟
كاتب فلسفي
ربما يعيش الإنسان اليوم في عصر قد يطلق عليه تسمية ما بعد الدين وربما قد لا يحتاج في هذا الزمان إلى الاعتقاد بقدر احتياجه إلى الإيمان الذي يأتيه ثمرة الشك وبعد عناء التفكير.
إذا حاولنا تعريف لفظ الدين فإننا لا نجد حدا جامعا مانعا وكل ما نعثر عليه هو بعض الممارسات الجماعية الرمزية في علاقتها بمفهوم المقدس وبعض التجارب الفردية الناتجة عن معايشة وضعيات قصوى وانفرادها باستراق السمع لنفحات من الغيب.
لكن الدين في حد ذاته كمنظومة متكاملة تشرع للناس نمط علاقتهم بوجودهم وببعضهم البعض كرؤية للحياة والموت والبعث فانه يظل موضع خلاف ولذلك ما انفكت المذاهب الدينية تظهر وتتزايد يوما بعد يوما بل ان التاريخ يحمل لنا بين الفينة والأخرى ميلاد فرقة تنضاف إلى الفرق الأخرى المنتمية إلى نفس الدين، إذ كيف نفسر تكاثر أتباع ديانة عبادة الشيطان في ظل وجود الأديان التوحيدية الكبرى؟ وكيف نفهم انتشار البهائية والقديانية والأحمدية والقرآنيين داخل الفضاء الإسلامي في ظل تقاسم النفوذ والسيطرة فيما يتعلق الاعتناء بالمقدس الإسلامي بين السنة والشيعة؟
يرى شلايرماخر وهو رجل دين بروتستانتي ليبرالي ألماني أن الدين هو شكل من أشكال الظهور والتجلي بالنسبة للروح البشرية ينبغي للناظر أن يحترم خصوصيته ويبقي على استقلاليته خارج عن كل من المعرفة والقانون والأخلاق والسياسة على الرغم من أنه يحتوي على عناصر معرفية وقانونية سياسية وأخلاقية. فالدين ليس معرفة ولا فعل ولا مركب من الاثنين رغم أنه في تمظهراته العينية لا يبدو في صفائه ونقاوته، كما أن له نفس موضوع الأخلاق والميتافيزيقا أي الكون ومنزلة الإنسان فيه.
ان الدين عند المؤسس الأول للهرمينوتيقا كنظرية فلسفية هو خضوع الروح للامتناهي وذلك لحظة جمعها بين الحدس والإحساس، حدس من طرف المتناهي للامتناهي وإحساس اللامتناهي بالمتناهي.
يوجد الدين فوق تناول المعرفة الموضوعية وبعيد عن تشويهات الممارسة وليس في متناول إدراك الفكر التأملي.
يتكون الدين كتجربة أصلية من عنصرين متنافرين هما الحدس والإحساس، الظاهر والباطن، المصرح والمضمر، البيان والعرفان، البرهنة والحجاج، انه انغماس بالروح في العمق قصد الاتحاد بالمطلق.
يرجع الدين إلى طبيعتين:
- طبيعة خارجية هي العبادات والطقوس والشعائر.
- طبيعة داخلية هي التأمل الباطني ومعايشة لحظات الانبثاق الأولى وتحلى المطلق للخلق.
يكون الإنسان أثناء التجربة الدينية في نفس الوقت مرآة وانعكاس للكون ولكنه مغمور بالإحساس بعظمة المطلق ويشعر باحترام كبير لكل ماهو أبدي وجليل.
ان المفاهيم الدينية والمعتقدات الموروثة هي ثانوية بالمقارنة مع التجربة الدينية الحية العفوية والمباشرة والتي يشعر من خلالها المرء بصلة مباشرة بمبدئه.
من هذا المنطلق يرى شلايرماخر أن مسائل وجود الله وخلود الروح والرحمة والمعجزة والوحي والنبوة والإلهام كلها ظواهر ليس لها معنى إلا من خلال انخراط الإنسان في التجربة الباطنية للدين عبر الإحساس والحدس والمشاركة مع المطلق.
ذهب شلايرماخر في كتابه quot;أحاديث عن الدينquot; إلى القول بوجود quot;دين عالميquot; وبذلك أصبح من المستطاع انطواء جميع quot;كفارquot; العصور الغابرة وزنادقتها ورافضي وجود آلهتها تحت لواء هذا المثل الديني الأعلى. وذكر شلايرماخر أن سائر الاختلافات الدغمائية تبدو غير ذات موضوع في ظل وجود مشاعر دينية حية وحقيقية. ان الدين الحق يقوم على المحبة، ولكن هذه المحبة لا تتجه إلى هذا أو ذاك أو إلى موضوع متناه أو خاص، أنها تتجه إلى العالم، إلى اللاتناهىquot;.
في هذا السياق:quot; دين دون اله يمكن أن يكون أفضل من دين له الهquot; ويقصد بذلك أن إدخال الله إلى العالم هو أفضل من وضعه في مكان ما خارجه.
مهمة الدين هو مساعدة الإنسان أثناء سيره في الكون ولذلك ينصح بتعلم الإنسان للدين ولا يكون تعلمه عبر حفظ جملة من القواعد والتطبيقات المتماثلة بل من خلال إيقاظ مجموعة من الاستعدادات في وجدان الإنسان تؤهله للاطلاع على العناصر ما فوق طبيعية.
قام شلايرماخر بتوسيع مهمة الهرمينوتيقا من دائرة المكتوب لتشمل الخطاب بشكل عام بما في ذلك المحادثة والإصغاء ودعا إلى فهم النصوص الدينية خارج إطار المذهب والتزم بفن في الفهم يجمع بين التأويل النحوي القواعدي والتأويل النفسي الجمالي في إطار حركة دائرية بين الكل والأجزاء وينطلق من مبدأ شهير يقوم على التماهي بين الكاتب والقارئ أي أن المؤول يفهم النص تماما مثلما قصد مبدعه.
اللافت للنظر أن تعريف شلايرماخر للدين في نهايات القرن الثامن عشر على أنه quot;الشعور العجز المطلقquot; وقع التخلي عنه وإهماله بعد الثورة العلمية وسيادة الحداثة ومبادئ التنوير خاصة وأن الإنسان بعد كل القدرة على السيطرة والتحكم التي حصل عليها في العصر الحديث نتيجة التطور العلمي والتقني لم يعد بحاجة إلى الدين وما يتضمنه من مقدس و إيمان.
بيد أن انتكاسة مشروع الحداثة وعودة العقل الغربي على نفسه مفككا بديهياته ومتسائلا عن صلاحية مبادئه وبالتالي حلول زمن ما بعد الحداثة وما أفرزه من حيرة معرفية وارتباك منهجي وغياب للقيم وتدنيس للمقدسات وفراغ أكسيولوجي، كل ذلك أدى إلى التفكير في استعادة التجربة الروحانية وإعادة الاعتبار إلى تعريف شلايرماخر للدين على أنه شعور بالتبعية المطلقة والعجز الإنساني أمام القوى الخارجية.
عندئذ ألا ينبغي على الإنسان أن يبحث عن الإبداع الحر بوصفها الينبوع المتفق للإيمان من أجل استعادة زمام المبادرة ومحاكاة اللامتناهي والتغلب على تناهيه؟ ثم لماذا قرر شلايرماخر أن الهدف من مشروعه الهرمينوتيقي quot;هو فهم كاتب على نحو أفضل مما فهم هو نفسهquot;؟ ماذا لو كان النص هو كتاب منزل والكاتب هو الله؟ هل يعني ذلك أن الإنسان غير قادر على معرفة مقاصد الشارع في كتابه وأن التأويل المقاصدي لم يعد له مكانة ضمن المشروع الهرمينوتيقي قد يشجع على الاعتقاد والتدين ولكنه لا يمثل أقوم المسالك الموصلة إلى الإيمان الحي؟
كاتب فلسفي
التعليقات