شهد الأردن منذ الانفتاح الديمقراطي الذي بدأه المرحوم الملك حسين عام 1989 طفرة قياسية في عدد الأحزاب التي تمّ الإعلان عن تأسيسها في السنوات القليلة اللاحقة،خاصة بعد صدور قانون الأحزاب السياسية رقم 32 لعام 1992، إذ بلغ عدد هذه الأحزاب في نهاية القرن الماضي ما يزيد على أربعين حزبا في مجتمع لا يزيد مجموع سكانه عن خمسة ملايين ونصف آنذاك، وكانت هذه ظاهرة نشازا بكل المقاييس خاصة أنه عند التدقيق المحايد يتم التأكد أن غالبية هذه الأحزاب كانت مجرد واجهات ديكورية لتلميع شخصيات من منطلقات شخصية أو عشائرية بدليل أن عدد أعضاء تلك الدكاكين (ميني ماركت) لم يكن عدد زبائنها ومرتاديها يزيدون عن أربعين شخصا هم عائلة سعادة الأمين العام وأصدقائه المقربين كعدد فقط، لا يهمهم أي بيان تأسيسي أو سياسة حزبية، وتحديدا تلك الدكاكين التي كانت تسوّق بضاعتها الكاسدة تحت دعاية (أمة عربية واحدة) بما فيها تأمين مقاعد للدراسة في الجامعات العراقية في زمن النظام السابق، وفي أغلب الأحوال يتقاضون مقابلا ماديا من أولياء أمور الطلاب للدراسة من خلال ترويج (الرسالة الخالدة)، وهذا ما حدا بالمرحوم الملك حسين أن يطلق مقولته المشهورة في وجه هذا العدد المتزايد من الدكاكين الحزبية (إن الزحام يعيق الحركة)، وقد تجسد هذا الزحام الذي يعيق الحركة في أن غالبية هذه الأحزاب تحولت إلى (ظاهرة صوتية) فقط لا علاقة لها بنسيج المجتمع الأردني واهتماماته في كافة الميادين. ومن خلال تتبعي الشخصي والميداني لحركة تلك الأحزاب فقد كان عملها لا يخرج من دائرة إصدار البيانات في المناسبات العامة التي يطلق عليها (المناسبات القومية) التي أساسا لا إجماع أردني حولها.
ويكفي أن نستعرض عددا من أسماء هذه الدكاكين لندرك أنها مجرد تسميات بدون مضمون، وسأحاول تجميع هذه الأسماء حسب التقارب في مضمون أسمائها، لندرك أنها مجرد واجهات للجاه والمظهر، لأنه لو كان لدى سعادة الأمناء العامين حدا أدنى من الإيمان بهذه المضامين لما تشرذموا بهذا الشكل المتشظي لحد المسخرة واللامعقولية:
مجموعة أولى:
حزب الحركة القومية الديمقراطية الشعبية
حزب البعث العربي الاشتراكي الأردني
حزب الأنصار العربي
حزب البعث العربي التقدمي
حزب العمل القومي
حزب الأرض العربية
حزب الجبهة الأردنية العربية الدستورية
مجموعة ثانية:
الحزب الشيوعي الأردني
حزب الشعب الديمقراطي الأردني
حزب اليسار الديمقراطي الأردني
حزب العمل الأردني
حزب الشغيلة الشيوعي الأردني
حزب حركة لجان الشعب الأردني

مجموعة ثالثة:
حزب جبهة العمل الإسلامي
حزب الوسط الإسلامي
حزب الحركة الإسلامية الديمقراطية
حزب الرسالة
مجموعة رابعة:
حزب الرفاة الأردني
حزب النهضة الأردني
حزب الخضر
حزب الأجيال الأردني
حزب العهد
حزب الأرض العربية
حزب السلام
أي مغفل أو ساذج يمكن أن يصدق أن هذه الدكاكين أحزاب حقيقية لها برامجها وخططها الخاصة بالمجتمع الأردني في كافة مجالات الحياة؟. إذا صدقّنا هذه المسخرة فهذا يعني أننا أمام أربعين برنامجا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا خاصة بالمجتمع الأردني، وهذا عدد لا يتوفر في جمهورية الصين الشعبية البالغ عدد سكانها أكثر من مليار وربع المليار نسمة، متذكرين في السياق ذاته أن القوة العظمى الوحيدة في العالم quot;الولايات المتحدة الأمريكيةquot; ينشط فيها حزبان فقط هما الحزب الجمهوري و الحزب الديمقراطي، وكذلك بريطانيا حزب العمال وحزب المحافظين. والدليل على أنّ غالبية هذه الأحزاب كانت مجرد دكاكين شخصية هو أنه بعد صدور القانون الجديد رقم 19 لعام 2007 الخاص بتنظيم الوضع الحزبي في الأردن، الذي نصّ على أن يكون الحد الأدنى لمؤسسي أو أعضاء أي حزب خمسمائة شخص على الأقل من خمسة محافظات أردنية، لم تستطع غالبية هذه الأحزاب الإيفاء بهذا الشرط البسيط ضمن المدة المحددة التي انتهت في الخامس عشر من أبريل 2008 فأصبحت في عرف المنتهية أو المنحلة، وبالتالي لم يستطع سوى ستة عشر حزبا من تسوية أوضاعها ضمن القانون الجديد كي تستمر في قانونيتها وشرعيتها كأحزاب عاملة في الساحة الأردنية، في سياق اتهامات من الحزبيين أنفسهم أن بعض الأحزاب لجأت إلى شراء ذمم من وافقوا على الانضمام لعضويتهم مقابل مبالغ مالية لم تزد عن مائة دينار أردني. هذا وقد أقرّ مجلس الوزراء الأردني نظاما للمساهمة في دعم ميزانية الأحزاب التي تمكنت من تسوية أوضاعها بملغ خمسين ألف دينار سنويا، كي يتمكن الحزب من دفع إيجارات مقراته ورواتب العاملين في مكاتبه والنفقات التشغيلية.
التيار الوطني: هل هو ضرورة أردنية؟
ورغم ذلك فإن ستة عشر حزبا في الساحة الأردنية ما تزال تشكل (زحاما يعيق الحركة)، من هنا تأتي أهمية المبادرة النوعية التي أطلقها المهندس عبد الهادي المجالي رئيس مجلس النواب الأردني التي تتمحور حول ضرورة تشكيل quot; تيار وطني quot; يعبر عن غالبية توجهات ورؤى أطياف المجتمع الأردني، ليكون في المستقبل القريب حزبا قويا من الممكن أن ينضوي تحت فكره وتوجهاته بعض ألأحزاب التي تمكنت من تسوية أوضاعها حسب القانون الجديد، وبذلك يتقلص عدد الأحزاب مما يزيل ذلك الزحام الذي يعيق الحركة. وقد عقد المؤتمر التأسيسي الأول لهذا التيار في الثاني والعشرين من أغسطس الماضي وسط حضور قرابة خمسة ألاف من مؤسسيه، وقد قدّم المهندس عبد الهادي المجالي في ذلك الاجتماع الرؤية التفصيلية لتوجهات ذلك الحزب الذي سيولد من خلال التيار الوطني، وعاد وأكّد هذه التوجهات في لقاء خاص جمعني معه في مكتبه بمجلس النواب الأردني، وهي سياسات محددة تتمحور حول:
أولا: إن آليات الحراك السياسي والاجتماعي لهذا التيار الواسع، تهدف لولادة حزبا وسطيا كبيرا ذي نزعة إصلاحية ديمقراطية يوظف خصوصيات الدولة وعناصر القوة السياسية فيها لخدمة حاضر الأردن ومستقبله، والدفاع عن مقدراته وتاريخه ومنجزاته.
ثانيا: التطلع الطموح الجاد لأن يكون الحزب الجديد جامعا موحدا يكرس العمل وفق منهجية واقعية برامجية تتصل بفكر وطني نابع من خصوصيات التجربة الأردنية أي غير تابع لأحد أو منسوخ من أحد، مما يعني صراحة أنّ الحزب لن يكون لعناد أحد أو التصادم مع أحد، بل حزب يعي مصلحة الوطن ضمن نهج نهضوي يرسخ وبامتياز الولاء لله ثم الوطن والعرش الهاشمي والمنجزات التي تحققت عبر مسيرة الأردن.
ثالثا: بروز التيارات القومية واليسارية والإسلامية لم يسمح حتى ألآن بتبلور الحزب الوسطي الذي يعبر عن الشريحة الأوسع في الأردن السياسي والاجتماعي، لذلك فطموح فكرة التيار الوطني هو الوصول لتشكيل هذا الحزب الذي سيتفق الأعضاء المؤسسون على اسمه وبرامجه في مؤتمرهم القادم.
رابعا: إن الساحة الأردنية وضمن رؤى للملك عبد الله الثاني غير مفروضة على أحد، لا تتسع ولا تحتاج لأكثر من ثلاثة توجهات حزبية تعبر عن التيار الإسلامي والتيار اليساري والتيار الوطني الأردني الشامل الذي يطمح المؤسسون له أن يكون حزبهم هو حزب الغالبية الأردنية بفكر وسطي معتدل، لا يتصادم مع أحد ولكن يطمح لتأصيل الفكر والممارسة الوسطية المعتدلة بعيدا عن تطرف أية اتجاهات إسلامية أو يسارية كما شهد الأردن في العديد من المحطات منذ الانفتاح الديمقراطي الذي بدأه عام 1989.
هل من الممكن نجاح هذه الفكرة؟
إنّ المتتبع للحراك الحزبي الأردني طوال العقدين الماضيين، يلاحظ مسألة مهمة وهي الارتباط الخارجي لأحزاب التيارات القومية والإسلامية، مما شغلها كثيرا عن هموم ومطالب المجتمع الأردني. فمثلا أي فكر وتوجه قومي حريص على المصلحة الأردنية طالما البعثيون في الأردن منقسمون بين البعث السوري والعراقي، و إذا كان هذان الحزبان في الدولتين الأم سورية والعراق، عاشوا خلافات و صراعات دموية أبسطها التفجيرات داخل القطرين وإغلاق الحدود بين الدولتين لما يزيد على ثلاثين عاما، فكيف يمكن أن يعملا في الأردن لمصلحة الوطن والمواطن؟. وكذلك التيارات الإسلامية فقد عملت بنفسية وعقلية (وكلاء الله في الأرض) لدرجة أنّ غالبية بياناتها ومواقفها كما بينت في مقالة سابقة شملت الموقف من إعصار كاترينا الأمريكي وما يجري في باكستان وأفغانستان وفلسطين والعراق، وكأن حزب هذه التيارات الإسلامية قوة عظمى ضاربة عسكريا واقتصاديا قادرة على تغيير مجرى التاريخ في كافة أنحاء الكرة الأرضية، ومع الاعتصامات والمسيرات والبيانات شبه الإسبوعية لم يبق للهم الأردني وطنا ومواطنا سوى مناكفة الحكومة على أرضية (عنزة ولو طارت) وفي أكثر من موقف ضد قناعات المجتمع الأردني وتوجهاته.
لذلك فإن المؤشرات من خلال دراسة الشرائح والشخصيات التي شاركت في المؤتمر التأسيس للتيار الوطني، تؤكد أن هذا التيار سيولد من تفاعلاته وحراكه السياسي والاجتماعي حزبا وطنيا أردنيا قويا جامعا يؤكد الالتزام بالوحدة الوطنية التي هي أهم سلاح أردني لمواجهة التحديات المطروحة في المنطقة، والسعي الجاد أن يكون هذا الحزب تيارا وسطيا يعبر عن مصالح وتطلعات القوى الشعبية كونه يضم قوى اجتماعية مختلفة يجمعها معرفة خصوصيات الأردن وإمكانياته، وبالتالي لن تزج الأردن في صراعات داخلية أو إقليمية، كما عبر عن ذلك التصادم الذي شهدته الصحافة الأردنية في الشهور الماضية، مما حدا بنقابة الصحفيين الأردنيين قبل أيام قليلة على لسان النقيب عبد الوهاب زغيلات في الإفطار الذي رعاه الأمير رعد بن زيد بحضور وزير الدولة لشؤون الإعلام ناصر جودة ومدير إدارة الإعلام والاتصال بالديوان الملكي الهاشمي أمجد العضايلة، أن يعلن صراحة quot; ضرورة أن تنأى الصحافة عن الشخصنة واغتيال الشخصية..وأن بعض الأقلام قد تجاوزت حدود المهنية وأساءت للوحدة الوطنية مثلما بعض المواقع الإليكترونية مارست أيضا ذلك، وهذا يتطلب منا وضع حد لهذه الممارسات التي تسيء للوطن وشخصياته الوطنية ولا تعكس حقيقة ونزاهة الصحافة الأردنيةquot;. وهناك من اعتبر أن عدم رعاية العاهل الأردني لهذا الإفطار هو تعبير عن عدم رضاه عن أداء الصحافة الأردنية في الشهور الماضية، خاصة أن بعض الأقلام استغلت سقف حرية التعبير المتاح لتصدح حسب إملاءات ومصالح بعيدة عن هموم الوطن والمواطن.
فرص النجاح متوفرة
لذلك فإن فرص نجاح تشكيل حزب وسطي معتدل من خلال الحراك السياسي والاجتماعي للتيار الوطني، كما بدا في مؤتمره التأسيسي الأول متاحة بنسبة عالية ورغبة شعبية عارمة، عبّر عن ذلك الشخصيات والكتل التي شاركت في المؤتمر خاصة الكتل الشبابية ذات الحضور المميز. ومن الجدير ذكره أنه مما يفهم من لقاءات المسؤولين عن هذا التيار الوطني أنه من ضمن أجندتهم دمج أكبر عدد ممكن من البرامج السياسية المتشابهة للأحزاب السياسية المتقاربة فكريا تحت برنامج وطني واحد، مما يجعل المعارضة للحكومة وأدائها داخل مجلس النواب معارضة أساسها الحقائق والأرقام، وليس الخطب الرنانة والاتهامات العشوائية، وهذا لن يكون متاحا إلا بهذا السقف العالي من حرية التعبير المتاحة في الأردن للكاتب والصحفي والنائب شرط المحافظة على مهنية هذه الحرية غير المتوفرة في غالبية الأقطار العربية.. ألأيام القليلة القادمة كفيلة ببلورة الوضع الحزبي في الأردن نحو أداء أفضل، يعي إمكانيات الأردن ووجوده وسط محيط عربي متلاطم الأمواج والأهواء والسياسات والمخاطر.
[email protected]