يوجد في الأمثال العربية مثل يكثر استعماله للتعبير عن الحالات التافهة التي لا تستحق أي ضجيج أو نقاش حولها، وهو المثل القائل (ما فيْ ميت بيستاهل جنازة). أعتقد أن الحي الميت في الحياة السياسية العربية منذ عام 1946 هو ما أصطلح على تسميته (القمة العربية)، و لمن يكون قد نسيّ فإن أول قمة عربية عقدت يومي الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من مايو عام 1946، بدعوة من الملك فاروق (ملك مصر والسودان) الذي استضاف القمة في مزرعته بمنطقة إنشاص القريبة من القاهرة، وحدّد الملك فاروق مسبقا موضوع القمة، وكان دراسة كيفية التصدي للهجرة اليهودية إلى فلسطين، وكان التصدي ناجحا بشكل مبهر بدليل قيام دولة إسرائيل وطرد الشعب الفلسطيني بعد عامين من تلك القمة.
وتوالت القمم لكن العدّ الرسمي لها بدأ منذ قمة الرئيس جمال عبد الناصر التي عقدت في القاهرة في الثالث عشر من ديسمبر عام 1964، التي أصدرت قرار إنشاء القيادة العربية الموحدة، وكان المعني بها القيادة العسكرية للجيوش العربية، وبعد ثلاثة سنوات تمكنت إسرائيل من إلحاق هزيمة 1967 بهذه الجيوش الموحدة، واحتلال قطاع غزة والضفة الغربية (أي كامل فلسطين) وسيناء المصرية وهضبة الجولان السورية، ولأن وقع الهزيمة كان محبطا، عالجها جمال عبد الناصر نفسيا فأطلق عليها تسمية (نكسة)، نعم مجرد نكسة بسيطة مما يعني الشفاء منها بعد أسابيع قليلة، وتعامل معها النظام البعثي بإسلوب عروبي قومي متمترس وراء المبادىء بصلابة لا تقهر، فأعلن أن نتيجة الحرب كانت انتصارا باهرا، لأن العدوان كان يقصد إسقاط النظام التقدمي، ولمّا لم يسقط هذا النظام وظلّ خانقا لحريات الشعب السوري ومثيرا للخلافات والفرقة العربية، فالنتيجة هي نصر مؤزر لا نقاش فيه ولا خلاف حوله. لذلك فالعد الرسمي للجامعة العربية يعتبر القمة التي انتهت في دمشق قبل يومين هي القمة العشرون (عود في عين الحسود). وليس من باب الشماتة أو جلد الذات القول أن السمة الأساسية للقمم العربية هي أنها منذ بدايتها عام 1046، اعتمدت أسلوب المجاملات (تبويس اللحى)، ولم يمتلك رؤساؤها وملوكها وأمراؤها القدرة على الصراحة والجرأة في تشخيص الأوضاع العربية التي كانت تواجه كل قمة، و الأسباب التي أوجدت كل وضع (مشكلة) وكيفية حلها، فأصبحت القمم مجرد لقاءات دورية للمجاملات والتقاط الصور التذكارية وإلقاء الخطب التي تتغنى وتتغزل بالتضامن العربي والوحدة العربية التي (ما يغلبها غلاّب)، والتضامن مع الشعب الفلسطيني الشقيق المناضل الصامد، وإدانة الاحتلال الإسرائيلي ومطالبته (بأدب شديد) بضرورة الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة (مع نسيان دائم للواء الإسكندرونة المحتل من تركيا، وإقليم الأحواز والجزر الإماراتية الثلاث المحتلة من إيران الشاهنشاهية و الإسلامية لاحقا، وسبتة ومليلة المحتلة من أسبانيا). طبعا وهم يعرفون أن كل هذا مجرد خطابات تفرضها المناسبة، فليس هناك من يتابع أويسأل المقصر، لدرجة أنه إذا نشرنا البيان الصادر عن أية قمة عربية في السبعينات على أنه البيان الصادر عن قمة دمشق في الثلاثين من مارس 2008، لما اكتشف غالبية القراء ذلك، وربما قصد معدو مؤتمر دمشق أن ينتهي يوم الثلاثين من مارس، لأنهم لو تأخروا يومين، وصدر البيان الختامي للمؤتمر في الأول من نيسان لاعتبره القراء العرب (كذبة نيسان) للأسباب التالية:
أولا: يتحدث البيان عن التضامن العربي وتكاتف الأشقاء العرب في مواجهة التحديات، وتسعة من الملوك والرؤساء العرب يقاطعون القمة الدمشقية، ويرسلون موظفين من وزارات خارجيتهم لتمثيل بلادهم في تلك القمة. طبعا هذا أمر لا يرضي صديقا ولا يغيظ عدوا، ولكن البادىء أظلم، فالرئيس السوري بشار الأسد صاحب بطولات وانتصارات (أشباه الرجال) هو من بدأ تلك السخافات عندما أرسل وزيرا مجهولا لم يسمع به السوريون أنفسهم، أطلق عليه صفة (وزير شؤون الهلال الأحمر السوري) لتقديم دعوة المشاركة في القمة للعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، في حين أرسل وزير خارجيته وليد المعلم لتقديم الدعوة للرئيس المصري محمد حسني مبارك، معتقدا أنه بذلك يوقع شرخا بين الموقفين المصري السعودي الخاص بمستوى التمثيل في القمة، فإذا مستوى التمثيل المصري والسعودي والأردني والعماني واليمني والبحريني والمغربي والعراقي والصومالي ردّ بنفس ألأسلوب. طبعا هذا لا يعني أنه لو حضر الغائبون من الملوك والرؤساء لكان التضامن العربي قد تحقق، وأعلنت الوحدة الشاملة ورفعت الحواجز والتأشيرات وفتحت الحدود بين الدولة العربية.
ثانيا: التضامن مع سوريا في وجه الضغوط الخارجية، وهذا مطلب عربي ولكن لم يجرؤ المجتمعون على التضامن الصريح مع الشعب اللبناني إزاء الضغوط السورية التي وصلت حد القتل والاغتيال وتعطيل الحياة السياسية وانتخاب رئيس للبلاد. و أنا متأكد أنّ غالبية الحضور لم يصدقوا كلمة مما قاله الرئيس السوري بشار الأسد في كلمته الافتتاحية للمؤتمر، حيث تبرأ من أي تدخل في لبنان، وليت واحدا من الحضور سأل رئيس (أشباه الرجال) عن السرّ في أنه منذ عام 1976 تاريخ بدء الاحتلال السوري للبنان كان يتم انتخاب الرئيس اللبناني الذي يريده البعث السوري في جلسة واحدة روتينية، لدرجة أنهم عدّلوا الدستور قبل سنوات للتمديد لرجلهم إميل لحود، وما إن تم طرد هذا الاحتلال عبر التظاهرات اللبنانية والضغوط الدولية، حتى بدأ مسلسل القتل والاغتيالات والتفجيرات وتعطيل انتخاب الرئيس اللبناني. لماذا كان ما يسمى ألآن المعارضة اللبنانية غائبا ولا وجود له، ولم توجد هذه المعارضة إلا بعد طرد الاحتلال السوري؟
ما نسيته وتجاهلته القمة
أولا: مطالبة النظام السوري الاعتراف باستقلال لبنان
وهذه المسألة أصبح عمرها يزيد على ستين عاما، وهي حالة فريدة في العالم كله وليس الأقطار العربية فقط، فرغم ميثاق جامعة الدول العربية، يرفض النظام السوري منذ عام 1945 الاعتراف باستقلال لبنان و ترسيم الحدود وتبادل التمثيل الدبلوماسي معه. وهذا يفسر كافة التدخلات السورية في لبنان، ففي عرف النظام السوري لبنان مزرعة خلفية سورية وليست دولة مستقلة، ورغم الإشارة لذلك بوضوح في رسالة رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة للقمة، إلا أن لبنان لم يسبق أن طرح هذه المسألة على اجتماعات الجامعة العربية، لأنها مسألة خطيرة أن لا تعترف دولة عربية بدولة أخرى وترفض تبادل التمثيل الدبلوماسي معها.
ثانيا: إدانة محاولة التمرد في دولة جزر القمر
رغم أن أحمد عبد الله سامبي رئيس دولة جزر القمر العربية، كان أول الواصلين لمطار دمشق للمشاركة في القمة العربية، إلا أن كافة وسائل الإعلام العربية التي غطت القمة تجاهلت حضوره وكلمته أمام القمة، التي لم أسمع بأية لغة ألقاها، لأن اللغة الرسمية في تلك الدولة العربية هي لغة (الشيكومور) وهي لهجة من اللهجات السواحلية السائدة في بعض الدول الأفريقية كالصومال وجيبوتي (عضوان في الجامعة والقمة العربية أيضا). وقد كان جبنا وغبنا أن البيان الختامي للقمة العربية لم يتضمن إدانة واضحة صريحة لمحاولة التمرد التي قادها محمد بكر في جزيرة أنجوان، وقد تم القضاء عليها بمساعدة قوات أفريقية (وليس عربية...يا للعار) يومان قبل وصول الرئيس أحمد سامبي لدمشق. وكم هو معيب أن لا تطالب القمة الحكومة الفرنسية بتسليمها المتمرد محمد بكر الذي فرّ إلى جزيرة (مايوت) الخاضعة للحكم الفرنسي. هل هكذا تعامل دولة جزر القمر التي انضمت للجامعة العربية منذ عام 1993 رغم أن شعبها لا يتكلم اللغة العربية، ولكنه انضم للجامعة حبا في العرب والعروبة. أهكذا يتم التعامل مع بعض (بلاد العرب أوطاني)؟. وربما الخوف من هكذا معاملة جائرة هو ما دفع حكومة إرتريا رفض الانضمام لجامعة الدول العربية، عندما استقلت عن إثيوبيا عام 1993 رغم أنها تقع بجوار دولتين من دول الجامعة هما السودان وجيبوتي وغالبية سكانها يتحدثون اللغة العربية.
ثالثا: نسيان تقديم الشكر لمفتي الجمهورية السورية
وهذا أيضا تقصير ونسيان يرقى لحد العار المشين، فكيف تنسى القمة تقديم الشكر العلني لفضيلة الشيخ أحمد بدر حسون مفتي الجمهورية السورية، التي أعلن فيها قبل انعقاد القمة بأيام (بأن حضور القمة العربية في دمشق واجب شرعي لأنها فرض عين على القادة العرب، ومن يتخلف عنها دون عذر إلا من مرض أو خوف أن يقتل فهو آثم). لله درك أيها الحسّون المفتي كم أنت متبحر في علوم الإفتاء البعثي و النفاق والعبث والمسخرة، لذلك ألوم القمة على نسيانها تقديم الشكر لك، رغم أن بعض مصادري الخاصة أكدت أن القمة درست فتواك تلك، وكان الرأي بالإجماع - بما فيهم المندوب السوري - أنها فتوى تافهة لا تستحق الشكر. ولغير المتبحرين في تنويعات اللهجات العامية العربية، أقول أنه في بلاد الشام (الحسّون) هو اسم مرادف ل (العندليب) الذي يغرد في كل حديقة تحلو له، لذلك سوف أطلق على هذا المفتي لقب (العندليب البعثي).
رابعا: نسيان بحث انضمام إيران للجامعة العربية
لا أعرف سببا مقنعا لعدم بحث القمة العربية موضوع انضمام إيران للجامعة العربية لتصبح العضو رقم 23 في الجامعة العربية المفتوحة، لأن المشاركة الرسمية لوزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي في القمة بدعوة رسمية من الدولة السورية المضيفة، لم يقبلها الوزير الإيراني إلا على أمل بحث انضمام بلاده رسميا للجامعة، خاصة أن علاقات بلاده مع الدولة السورية ودويلة حزب الله في لبنان وممثلي إيران في العديد من الدول العربية، أقوى من العلاقات بين أية دولتين عربيتين. كما أن شروط وحيثيات انضمام الصومال وجزر القمر وجيبوتي تجعل من السهل انضمام إيران ألآن للجامعة العربية و في المستقبل القريب تركيا التي حضر أمين عام وزارة خارجيتها القمة بدعوة رسمية.
أكثرهم صدقا في القمة
عمرو موسى
للمرة الأولى منذ تسلمه منصب الأمين العام للجامعة عام 2001 يكون بهذه الصراحة، إذ قال في خطاب افتتاحه قمة الممانعة في دمشق:
(إننا نعاني أزمة ثقة فينا وفيما بيننا، نعم لقد وصل الأمر إلى درجة غير مقبولة من الاضطراب في العلاقات العربية. تنعقد القمة والغيوم تملأ الجو العربي الذي أصبحت قتامته مضرب الأمثال، وباتت سلبياته تضرب في جذور النظام العربي، وتخلق حالة من الالتباس السياسي، والارتباك في الأولويات، والاضطراب في العلاقات العربية، وتكبيل الحركة الجماعية نحو المستقبل).
العقيد الأخضر و شخبط لخابيط
كان خطاب العقيد الأخضر في القمة يحاكي أغنية المناضلة التقدمية الملتزمة الرائعة نانسي عجرم (شخبط شخابيط، لخبط لخابيط)، إلا أنه بصراحة وسط هذه الشخابيط واللخابيط، تمكن أن يلمس بعض جوانب اللخبطة التي تشخبط العلاقات العربية، عندما قال مشخبطا: quot;الحكام العرب يتآمرون على بعض وأنهم يكرهون بعض ولا يتمنون الخير لبعض، والحكومات العربية سخّرت أجهزتها الأمنية لحبك المؤامرات على الدول العربية quot;. وفي اتصال خاص مع إحدى الحارسات الشخصيات اللواتي رافقن العقيد الأخضر في رحلته وداخل قاعة المؤتمر بما فيه الجلسات المغلقة، أعرفها منذ عام 1979 عندما عملت مدرسا في جامعة الفاتح بطرابلس عاصمة الجماهيرية العظمى، قالت لي راجية عدم ذكر اسمها: quot;كان الأخ العقيد يقصد التدخل السوري في لبنان، والتخريب الذي تمارسه أجهزة ألأمن السورية في لبنان، وبشكل غير مباشر يقصد أيضا خطته لاغتيال الملك السعودي، ودعوته في الثمانينات للسيد موسى الصدر وقتله في طرابلس، وخطف وقتل العديد من المعارضين الليبيين، كما أنه يريد بشكل غير مباشر الاعتذار عن المشاكل التي افتعلها مع مصر إبان عهد أنور السادات التي أدت إلى حرب برية وجوية بين البلدين quot;. وعند سؤالها عن غرض العقيد من الطلب من العرب التعامل بطريقة جيدة مع الجارة إيران رغم احتلالها للأحواز العربية والجزر الإماراتية الثلاث، قالت الحارسة الشخصية للعقيد: quot; هذه مسألة متفق عليها مع وزير الخارجية الإيراني الذي حضر القمة العربية، إذ وعد العقيد مقابل ذلك، بعدم الاستمرار في فتح ملف اختفاء الإمام موسى الصدر بحكم أنه كان إيراني الأصل رغم قيادته لحركة أمل اللبنانية آنذاك quot;. وفي نهاية حديثها قالت لي الحارسة الشخصية للعقيد: quot; رجاء لا تأخذوا كل ما يصدر عن سيادة العقيد على محمل الجد، فهناك ظروف خاصة تستدعي منه هذه الهلوسات، كما أعلن منذ شهور ضرورة إحياء الدولة والخلافة الفاطمية في المغرب العربي أولا ثم باقي الدول العربية بما فيها جزر القمر quot;.
توقعات ما بعد عشاء القمة الأخير
بناءا على الدورات المكثفة التي تلقيتها الشهور الأخيرة في علم التنجيم، بالإضافة لخبرتي في سلوك الأنظمة العربية، أتوقع بعد انتهاء قمة العشاء الأخير ما يلي:
أولا: استمرار تدهور العلاقات بين بعض الدول العربية خاصة بين سوريا من جهة والمملكة السعودية ومصر من جهة أخرى بسبب مقاطعة الملك السعودي والرئيس المصري للقمة، والمشاركة بتمثيل أقل من مستوى (وزير الدولة السوري لشؤون الهلال الأحمر).
ثانيا: وكون النظام السوري لا يستطيع الرد والعبث داخل السعودية ومصر، فسوف تكون ساحة انتقامه الممكنة هي لبنان، لذلك ستشهد الشهور القادمة اغتيالات جديدة ستطال قيادات سبق أن قتل النظام السوري بعض أفراد من نفس العائلات. وسوف يستمر تعطيل انتخاب رئيس جديد للبنان، لأن استمرار الفراغ الرئاسي يسّهل عمل وتحرك المخابرات السورية وعملائها في لبنان.
ثالثا: استمرار الانفصال الفلسطيني بين (دولة عباس في رام الله) و (إمارة حماس في غزة)، خاصة بعد رفض إمارة حماس لخطاب عباس في القمة، وإعلانها أنه لا يمثل الشعب الفلسطيني، وبالتالي سوف ترسخ إمارة حماس وجودها خاصة أن الذكرى السنوية الأولى لتحريرها قطاع غزة على الأبواب في الخامس عشر من حزيران القادم، رغم أن هناك قيادات في حماس تطالب بتقديم الذكرى السنوية عشرة أيام لتكون في الخامس من حزيران كل عام، ليكون متوافقا مع ذكرى هزيمة العرب في عام 1967، ليعرف العرب من المحيط إلى الخليج وفي جزر القمر، أن الحركة قادرة على تحقيق انتصارات التحرير في ذكرى هزائم المدحورين. وبالتالي سيكون لفلسطين وفدان في القمة القادمة في دولة قطر، وفد لعباس وآخر لحماس، وكما يطالب البعض سورية بالاعتراف باستقلال لبنان وتبادل التمثيل الدبلوماسي معه، ستطرأ مطالبات جديدة للاعتراف باستقلال الدولة والإمارة الفلسطينية، وتبادل التمثيل الدبلوماسي بينها، والطلب من الشقيقة إسرائيل توسيع دائرة الحاملين لبطاقات في آي بي، لتسهيل حركة وزراء الدولتين، اللتين سوف تتسابقان حينئذ على تحسين العلاقات مع الجارة إسرائيل وستتحول هدنة حماس الطويلة إلى اعتراف قصير.
وهناك توقعات أخرى مخيفة، لن أجازف بذكرها كي لا أثير الرعب في الشارع العربي، وأشجع الهجرة والهروب من (بلاد العرب أكفاني) والله المستعان.
[email protected]
[email protected]
التعليقات