شاكر النابلسي: غسان تويني المدرسة الأم


إيلاف تكرّم غسّان تويني بحوار في ذكرى ميلاده
-1-

منذ أن وعينا على القراءة الجادة، لم نجد أمامنا في الأردن في الصحافة الشامية، غير غسان تويني، نقرأه، ونلتهم ما يكتبه كما نلتهم (المنقوشة بالزعتر) أو طبق التبولة. فهو شهي، وسهل الأكل، والهضم.

وكنا في الأردن، ونحن في مقتبل العمر، وفي أول خطواتنا نحو القراءة السياسية، والتعليق السياسي الجاد، والمليء بالمعلومات، لا نعرف من صحافي لبنان غير عدد قليل من المعلقين معظمهم من مدرسة quot;النهارquot; الصحافية، التي طبعت بطابعها كثيراً من الصحف الشامية والخليجية. وفقد كان صحافيو quot;النهارquot; ndash; ومنهم ميشال أبو جودة تلميذ غسان تويني - من النخب الصحافية المميزة في العالم العربي، وفي لبنان خاصة. وكان يقال أن بعض الحكام العرب، يتخذون قراراتهم، بعد أن يقرأوا مقال غسان تويني، أو ميشال أبو جودة.

-2-

وكنا عندما نأتي من عمان إلى بيروت، في عطلة نهاية الأسبوع، وفي الإجازة الصيفية، نحرص على أن نمرَّ أمام مبني quot;النهارquot; القديم في شارع الحمراء، فنشعر براحة سحرية، ونظن أن الحقيقة السياسية، تخرج من هذا المعبد الصحافي المقدس، الذي أسسه والد غسان (جبران تويني) وأعلاه، وارتقى به غسان، ومن بعده المرحوم جبران تويني الابن.

-3-

كانت عائلة تويني تعني لنا في الأردن الصحافة والشعر. فمن جبران إلى غسان إلى جبران الابن، كان ذلك الرغيف الصحافي الطازج الذي يخرج كل صباح من فرن quot;النهارquot; فنلتهمه حافياً.

ومن ناديا تويني (زوجة غسان) جاءت جداول الشعر الرقيق، الذي قدمه لنا انسي الحاج، وأودنيس، وبول شاوول. وكان بيت تويني عموماً، يشار له بـ quot;بيت الحكمةquot;، بما له من إسهامات ثقافية، في الحياة اللبنانية، والعربية.

-4-

ومن مدرسة غسان تويني الصحافية، تخرج جيل كامل من الصحافيين والمحللين السياسيين البارعين في لبنان. وما زال صحافيو quot;النهارquot; وصحافيو لبنان عامة، من أكثر المحللين السياسيين العرب واقعية، وموضوعية، ورؤى سياسية سليمة، نتيجة لتمتع الصحافة اللبنانية بأكبر هامش للحرية في العالم العربي، ونتيجة للثقافة العميقة التي يتمتع بها صحافيو لبنان. ورغم المآسي العائلية التي حلت بغسان تويني بفقدانه ثلاثة من أبنائه، إلا أن هذا لم يقعده عن الكتابة السياسية المبدعة حتى اليوم، فقد كانت الكتابة السياسية، بمثابة نضال يومي بالنسبة له.

وقد عبَّر عن هذه الحالة صديقه الفرنسي دومينيك شوفالييه، الأستاذ في السوربون، حين كتب عنه يقول: quot; المعاناة في الحياة تبشّر بالأمل. والإنسان ينتعش في جسده وروحه. وخلافاً للمظاهر والإشاعات، لا تُقَدّم الحياة أي تواطؤ، ولكن عندما تحين الفرص، يجب اغتنامها، كي يبقى الإنسان مبدعاًquot;.

وبقي غسان تويني بعد 85 سنة من عمره المديد مبدعاً، حتى الآن.


****


هاني نقشبندي: غسان تويني... في عروقه الحبر يسير

هذا هو اكثر ما يعجبني في هذا الرجل.. انه ما يزال يعمل بهمة شاب في العشرين, رغم ظهره الذي احنته السنون البيروتية الصعاب.. وابنه جبران.
التقيته ذات يوم على مائدة مع جمع من الاصدقاء في دبي. كان ذلك يوم تكريمه في حفل جائزة الصحافة العربية. تحدث عن وجع القلم.. وجرفه حنين الى أيام مضت.
أحسسته يريد ان يقول بأن القادم اصعب, والمشوار ما يزال في بدايته.
وقد كان القادم اصعب بالفعل. إذ رحل جبران.. أخذته قافلة الراحلين.
عندما رأيته يلقي كلمة بعد رحيل جبران, كان يبدو كفارس يحيي فارسا ترجل.. بلا انكسار. وفي يقيني ان ما يسير في عروق غسان تويني, بعد كل هذه السنين الطوال مع القلم, ليس دما بشريا, بل حبر أزرق.


****

د. سيّار الجَميل: غسان تويني عميد الصحافة اللبنانية وصرح الإعلام العربي

اكتب عن غسان تويني اعتزازا مني به، وأنا احد كّتاب النهار منذ سنوات طوال.. انه علامة بارزة في معاصرتنا، وعبقرية متميزة في ثقافتنا. وكان ولم يزل، ابرز كاتب مقال عربي منذ 50 سنة.. مثير للجدل والتفكير، كونه ظاهرة لها مصداقيتها الإعلامية، عكس غيره من مجايليه العرب.. لقد تميز بخصال مهمة، مؤسسا لتقاليد عريقة في الصحافة العربية، ولا يمكن أن يقرن اسمه بغيره من عمداء الصحافة، فلقد بز عليهم جميعا في مهنته وثقافته العليا.. فضلا عن رجولة كلمة وموقف في آن واحد، وبقي على خطّه الفكري الليبرالي، ثابتا، لم يتزعزع أبدا.. ونجح في ريادته الصحفية.. إنه واحد من عباقرة لبنان الذين اشتهروا ليس بمهنة الصحافة حسب، بل أعده واحدا من أقوى أركان ثقافة العرب في القرن العشرين.
ولد ببيروت 1926، وتأهل بجامعتها الأمريكية 1945، ونال الماجستير بجامعة هارفرد 1947.. ثم عاد ودّرس بالجامعة الأمريكية 1947 ndash; 1948. مكتشفا أن ذاته لا تتحقق إلا بتحرير صحيفة النهار التي كان أصدرها والده المؤسس. ومنذ ستين عاما، وهو عميد للنهار.. وكان قد أشعل معارك سياسية، وأثار مشكلات فكرية، وفجّر زوابع اجتماعية، فضلا عن تأسيسه دار النهار الشهيرة بالطباعة والنشر والتي أثرت حياتنا بالمئات من الأعمال الرائدة.. انتخب غسان نائبا مرات عدة، ونائبا لرئيس مجلس النواب. ونصّب سفيرا للبنان بأمريكا 1967، واختير وزيرا لأكثر من حقيبة عدة مرات ونائبا لمجلس الوزراء. واختير رئيسا لجامعة البلمند 1990- 1993، وغدا عضوا لمجلس أمناء الجامعة الأمريكية 1998 ndash; 2002. وترأس لجنة متحف سرسق 1998. ثم تفرغ لجريدته ومؤسسته التي كان يعاونه في إدارتها ولده جبران قبل استشهاده المؤلم.
لقد أثرى غسان حياتنا العربية بكتبه، مرسّخا فكره السياسي على امتداد نصف قرن من الزمن الصعب. واستمر يكتب مقالته السياسية في نهاره، ونجح في تطوير أساليب العمل الصحفي، فأثّر في تطور الصحافة العربية، بإدخاله عدة مزايا وأفكار، منها فكرة الملحق الثقافي.. كما اضطلعت quot; النهارquot; بمعالجة قضايا محلية صرفة وقضايا عربية وإقليمية مستعصية، ناهيكم عن قضايا دولية عاشها العالم منذ بعيد الحرب الثانية مرورا بالحرب الباردة، وانهيار الكتلة الاشتراكية، والحروب الخليجية وصولا لأحداث 11 سبتمبر 2001 وتداعياتها الخطيرة.
أنه مفكر ليبرالي معاصر، لا يمكنه أن يتيه بنا أبدا بتفاصيل صحفية مفذلكة، أو ثرثرة تلفزيونية هزيلة، ليكون خارج الزمن وحركته، فهو دوما في قلبه، يدور مع عجلته، وأن من يسمعه يتكلم ويقدم رؤيته للأشياء والأحداث مشخصا ما سيحدث في المستقبل، يكتشف فيه انه يسبق الزمن، بتجاربه الغنية، وحركته الدائبة، فتجعلانه دوما صاحب رؤية معمقّة للشرق الأوسط، وللرجل أمانته الموضوعية في معالجة الأمور، ويتمتع بخصال إنسانية قبل كل شيء، مكتسبا ثقافته الرصينة منذ صغره، وبلغتين عالميتين الانكليزية والفرنسية، فيبدو وقد تزود عميقا من بحر واسع الأبعاد.. وله شجاعته الأدبية والسياسية، في أن يقول ما يؤمن به، ولا يتوانى أبدا عن قول الحقيقة كما هي ولا يخشى في الحق لومة لائم..
لعل من ابرز ما يعجبني في تقييم الرجل ظاهرته الفكرية لا الصوتية، فهو محلل بارع للأحداث، والشخصيات بلا أي ثرثرة، أو استعراض عضلات.. فضلا عن قوة مجابهته للخصوم الذين تلونت فيهم الأفكار والسياسات والأيديولوجيات، بدءا بالانتداب، ثم الاستقلال ومرورا بالقومية العربية، ثم التصادم مع الفلسطينيين واندلاع الحرب الأهلية، ثم الدور السوري، وانتهاء لما بعد مؤتمر الطائف. لقد مرّ ومؤسسته بكل المراحل الخطيرة، وخرج منتصرا منها كونه قد حافظ ليس على حياته حسب، بل على كيانه الذي بناه منذ عشرات السنين.
التقيت به في مناسبتين، اولاهما، عندما كنا مجتمعين في قاعة فندق فينيسيا بيروت المخملية، رفقة مثقفين ومفكرين وأساتذة، فألقى كلمة مؤثرة، وحلّل جملة الأوضاع الدولية والإقليمية.. فلمست فيه عمقا ثقافيا هائلا، وصوتا له القدرة على أن يضع النقاط فوق الحروف.. اكتشفت فيه وأنا المؤرخ المتواضع، مؤرخا ماهرا باستطاعته استدعاء البراهين والأمثلة التاريخية التي يمكنه توظيفها بمهارة وفن، كي يكسب جولته بأفكار جريئة ليس لغيره القدرة أن يقتحمها أبدا ! وكان مغامرا في الخروج بنتائج تبين لي في ما بعد انه صائب في تقديراته للأحداث وسيرورتها وتداعياتها.. فضلا عن أسراره في معرفة العالم والقوى الدولية.. انه ذكي في قراءة المتغيرات المتبلورة عند مطلع التسعينيات.. وأثبتت الأيام مصداقية نتائجه. إن رؤيته الثاقبة للأمور تنسجم مع ما يؤمن به من أفكار ومعتقدات سياسية ! لبناني قح، ولكنه لم يجعل من العروبة قميص عثمان يحمله أينما كان.. يحترم خصوصياته، ويدلي بقوة لدى الآخرين.. إذ وجدته ينبه من مخاطر محلية وإقليمية ودولية. اكتشفت أيضا نزعته النقدية في تحجيم الخصوم وتهميش ما يقولون وجعل رأيه هو محور التعامل الأساسي. وعليه، فان خصومه معروفون دوما وليس باستطاعتهم منازلته إذ يدركون جيدا مدى قوته إزاءهم.
لقد خرجت قبل خمس سنوات بعد قراءة متأنية لبعض كتبه الأخيرة بأفكار مدهشة، وأنا احضر زائرا في مبنى نايسلي هول في محاضرة منتدى الدراسات الحضارية في الجامعة الأمريكية ببيروت، وقد قدمته د. منى تقي الدين اميوني.. فارتجل كلمته، وخاض في ظاهرة الإرهاب، وحللها سياسيا بروعة بالغة، متسائلا : هل الدين هو المسألة، أم الاقتصاد ؟ ولم يكتف بتحليل الحاضر تمهيداً لاستكشاف المستقبل، وعاد إلى التاريخ قائلا إن جذور الصراعات الحالية تعود إلى زمن السيطرات الغربية في القرنين 18 و 19، وأكثرها تأثيرا احتلال بونابرت لمصر. لقد استدعى تويني التواريخ أفضل بكثير من مؤرخين عرب يسمّون أنفسهم بأكاديميين، وبثقافة واسعة، أهلته لنفي صفة quot; الحرب الأهلية quot; في لبنان، لأن تمويل الحرب وميليشياتها وأسلحتها والتدخلات فيها، لم تكن لبنانية صرفة ! غسان له أفكاره عن العولمة والشرق أوسطية والمتوسطية وعن دور كل من تركيا وإيران وإسرائيل مع معرفة معمقة بالشأن الأميركي وروما الجديدة.. انه الأعرف بتفكك العرب وتساؤلات المستقبل عن كيفية إعادة تركيب أنفسهم، وله رؤيته في سبل نهضتهم بعيدا عن الاستبداد والزيف واقترابا للحرية والعصرنة. والحاجة إلى مشروع عربي لمجتمع أكثر استقرارا في المستقبل. (انظر التفاصيل في فصلة غسان تويني التي كتبها د. سيار الجميل في كتابه :نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية.)

*****

العفيف الأخضر: غسان تويني، أسطورته هي حقيقته

quot;الجريدة هي صلاة الصبح الحديثةquot; (هيجل)

دخلتُ لبنان عام 1966 لائذا ومدافعا عن ضحيا الانقلاب العسكري في الجزائر وعلى رأسهم الرئيس أحمد بن بلّة. وزير الخارجية، عبدالعزيز بو تفليقة، كان أحد كبار صناع الانقلاب. استدعى سفير لبنان في الجزائر الى مكتبه في وزارة الخارجية وطالبه بمصادرة جوازي الجزائري وطردي من لبنان كما اخبرني انذاك الصحافي اللبناني غسان شرارة ثم سفير الجزائر الشهم علي كافي. لكن الرئيس عبدالعزيز بو تفليقة اعتذر عن مشاركته في هذا الانقلاب وعن محاولة طردي من ملاذي اللبناني... بل وألغى الاحتفال بيوم الانقلاب، يوم 19 جوان (يونيو / حزيران) كيوم إجازة وعيد. قلّة هم القادة الذين ينظرون بعين نقدية لإحدى لحظات ماضيهم. عبدالعزيز بو تفليقة واحد نادر ndash; وأسفاه ndash; من هذه القلة القليلة.
غسان تويني هو الآخر من القلّة القليلة في مجاله. لم التق به فساعدني ذلك على نحت تمثاله في مخيلتي. اليكم صورة عن صورته فيه. غسان تويني هو quot;النهارquot; والنهار هي غسان تويني. إذا عرفته عرفتها وإذا عرفتها عرفته. عرفت النهار منذ 1966 إلى 1974 عندما خرجت من لبنان وكأنما كنت اخرج من جلدي. غالبا الصحافة في لبنان حرفة للارتزاق الشريف أو غير الشريف. أما عند غسان تويني فمهنة رسالية. افتتاحياته لا مكان فيها للريطوريقا بل للحقيقة . في يوميته الخبر مقدس والتعليق حر. خلافا للصحف الاديولوجية اليمينية أو اليسارية، كانت اليومية اللبنانية الضادفونية التي لا تستطيع أن
تتوقع لمن وماذا ستقرأ فيها غدا. مثلما لبنان وطن ndash; ملاذ تلتقي فيه بكل من لاذوا به فرارا من أوطانهم ndash; السجون سواء أكانوا من أقصى اليمين أو أقصى اليسار، من أقصى الايمان أو من أقصى الالحاد. كذلك النهار جريدة ndash; ملاذ فيها تلتقي بأفكار هؤلاء جميعا بلا رقابة ولا رقابة ذاتية.
تَعلّم لبنان من جبله حب الاستقلال وتعلم من بحره حب الانفتاح على كل الرياح السياسية والفكرية والأدبية والفنية، على جميع الملل والنحل وحامليها من البشر. نهار غسان تويني هي مرآة لجبل لبنان وبحره. كانت لسان اللبنانيين وأحباء لبنان ndash; وأنا أحدهم ndash; الخائفين على استقلاله وحريته. دفاعا عما وهبه الجبل والبحر معا للبنان، قدم غسان تويني وقدّمت معه النهار فلذة كبديهما المأسوف على شبابه وشجاعته الفكرية، جبران تويني. كانت النهار غذاء روحيا لكل اللبنانيين وأحباء لبنان حتى للمنحازين منهم لأحزابهم وطوائفهم. كثيرا ما عاينت القارئ منهم يشتري جريدة حزبه أو طائفته ثم يضيف اليها النهار حتى لا يرى أبعد من أنفه الحزبي أو الطائفي.
أقطع كل صباح مشاطئا البحر من شقة الصديق د. صادق جلال العظم أو من شقة الحبيب أنور مظفر البكري ndash; من آل ابي بكر- (في المنار) قاصدا المكتبة الوطنية اللبنانية أو دار الآداب للقاء الصديق د. سهيل ادريس أو دار الطليعة للقاء الصديق د. بشير الداعوق... في طريقي أجلس في مقهى الحاج داود ورضاض البحر ينعش وجهي وأنا ارتشف قهوة الهال وأقرأ النهار مستحضرا تعريف هيجل للصلاة الحديثة: quot;الجريدة هي صلاة الصبح الحديثةquot;، لولاها لبقيت كتابات فلاسفة التنوير في ارشيفات تاريخ الأفكار... ومتذكرا تفاؤل Tocqueville : quot;الصحافة بشارة المجتمع الجديد حيث تتآخى المساواة والحريةquot;. هذا المجتمع الذي كان حلمي الجميل شابا ولا زال حلمي الأجمل شيخا... قد يحققه، في السيناريو المتفائل، حلف الإنسانية المتألمة والإنسانية المفكرة من الأجيال التي وُلدت والتي ستولد. فألف سلام على غسان تويني والف سلام على النهار وألف سلام على لبنان الجبل والبحر.