لطالما كان اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الامريكية داعما وناصرا لاسرائيل ظالمة او مظلومة وان لم تكن مظلومة ابدا، وقد سعت الى تخليق ذلك التجمع المساند لها والمؤازر لسياساتها منذ زمن بعيد ذلك انه وقر لدى قادتها في تل ابيب انه باستطاعة أي كونجرس متشدد أن يدمر إسرائيل بسرعة تفوق سرعة تدمير أي جيش عربي وذلك عبر وقف الدعم المادي والعسكري منه على الخصوص تاهيك عن الادبي المعنوي المروج لسياساتها في المحافل الدولية والحامي لها عبر الفيتو الذي لا يمكنها ان تمضي قدما في شهواتها الدموية دون حمايته.
على ان التساؤل الذي بدا يتجلى في الافق منذ بضعة اشهر وارتفع في سماوات واشنطن الايام القليلة الماضية الى اعلى عليين... هل اقتربت نهاية وحدة هذا الصف اليهودي الامريكي وبذات الفعل بقية الجماعات الامريكية اليمينية الصديقة للدولة العبرية؟
يبدو ان ذلك كذلك فقد كان منتصف شهر ابريل نيسان الماضي موعدا لحركة غير مسبوقة في تاريخ يهود الولايات المتحدة الأمريكية وهم على سبيل التذكير خليط من يمينيين مغرقين في التطرف و يساريين يميلون كثيرا إلى الطروحات الاشتراكية بقديمها وحديثها و من بينهم ليبراليون وهؤلاء هم بيت القصيد هذه المرة، فقد ذهب البعض منهم إلى محاولة بلورة لجنة عمل سياسية ومجموعة ضغط بهدف إنهاء ما يعتبرونه سيطرة من جانب التيارات اليمينية المسيحية والتي تتسق مع فكر المحافظين الجدد على سياسات الولايات المتحدة الأمريكية تجاه إسرائيل فيما الهدف الأبعد الذي يسعى إليه المنظمون للمجموعة الجديدة هو التعاون مع مجموعات ضغط منفصلة أخرى تركز على التوصل إلى تسوية سلمية عربية ـ إسرائيلية.
والمثير أن اسم الجماعة اليهودية الجديدة يشكل لعبا مزدوجا على الكلمات... ماذا يعني ذلك؟
اختارت المجموعة أن تطلق على نفسها quot; جي ستريت quot; واللعب هنا ليس فقط لان الحرف جيه quot; يوحي بكلمة quot;جويش quot; أي يهودي ولكن لان اسم quot;كيه ستريتquot; كان مختصرا لصناعة اللوبي في واشنطن لان الكثيرين من مسؤولي جماعات الضغط يقيمون هناك.
ومع استمرار العمليات الوحشية الاسرائيلية على غزة كانت جماعة quot; جي ستريت quot; وعدة جماعات اخرى تجد طريقها الى الاعلام الامريكي والعالمي من خلال طريق مناوئ للطرق المذهبية التقليدية التي اتبعتها quot; الايباك quot; منذ امد بعيد.....لماذا قررت تلك الجماعات معارضة اسرائيل في غزوها لغزة وان كانت داعمة لحقها في الوجود والحياة الآمنتين؟
يجيب جيريمي بن عامي، المدير التنفيذي لحركة quot;جي ستريتquot;، فيقول أن المسألة لا تكمن في حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، فهذا غير قابل للنقاش، وإنما فيما إذا كانت عملية مثل مهاجمة غزة سوف تأتي بنتيجة ما.
ويضيف quot;نحن نؤمن بأن أصدقاء إسرائيل الحقيقيين إنما يقرون بأن تصعيد النزاع سوف يأتي بنتائج عكسية، ويزيد من الغضب في المنطقة، ويضر علي المدى الطويل بإمكانيات السلام والاستقرارquot;.، وقد نشرت حركة quot;جي ستريتquot; تصريحات مديرها التنفيذي في بيان صحفي أكدت فيه أن هذا التصعيد الأخير quot;يدفع النزال الإسرائيلي الفلسطيني الطويل نحو مسارا من العنف الذي لا نهاية لهquot;.
اما جماعة quot;الأمريكيون من أجل السلام الآنquot; وهي الجماعة الشقيقة لمنظمة quot;الإسرائيليون من أجل السلام الآنquot;، فقد نادت quot;حكومة إسرائيل بإنهاء العملية العسكرية في غزة والعمل علي تحقيق وقف إطلاق النارquot;، كما نادي quot;التحالف اليهودي من أجل العدالة والسلامquot; إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش quot;إطلاق مسعيا دوليا للتفاوض ووقف إطلاق النارquot;.
فيما دانييل ليفي المفاوض الإسرائيلي السابق ورئيس فريق العمل المعني بالشرق الأوسط في مؤسسة أمريكا الجديدة يفسر موقف جماعته مما يجري في الاراضي الفلسطينية بالقول quot;نحن أيضا نحب إسرائيل، لكنه ليس من صالحنا ولا من صالح إسرائيل أن نردد أقوال وزارة الخارجية الإسرائيليةquot;.
ما الذي يعنيه المشهد المتقدم؟
يعني بلا شك ان هناك حركة جديدة مغايرة تتشكل في افق الحياة اليهودية الامريكية وليس ادل على ذلك من ذلك البيان الذي وزعته حركة quot; جي ستريت quot; ووقع عليه اكثر من اربعة عشر الف فرد حتي الآن، بغية استخدامه للضغط علي فريق نقل السلطة التابع للرئيس المنتخب باراك أوباما وأعضاء مجلس الشيوخ،وينادي البيان بحتمية اطلاق quot;جهود دبلوماسية مكثفة بقيادة الولايات المتحدة للتعجيل بوقف إطلاق النار وإنهاء العمليات العسكرية، ووقف الصواريخ الموجهة ضد إسرائيل، ورفع الحصار عن غزةquot;.
كما ان هذه الحركة تاخذ في حساباتها صالح اسرائيل والشعب الفلسطيني وكذلك مصالح الولايات المتحدة الامريكية التي تهددت طويلا ولا تزال من جراء الدعم غير المحدود ولا المسبوق لتل ابيب، وهذا ما اشار الى خطورته الباحثان الامريكيان في جامعة هارفارد ستيفن والت وجون ميرشايمرز في قراءتهما الشهيرة الصادرة منذ عامين تقريبا.
على ان اهم ما يتخلف عن تلك المواقف الجديدة والمثيرة في سيرة ومسيرة يهود امريكا وبقية مناصريهم هو انها توسع دائرة الطرح والتساؤل حول معاني المسؤولية والحكمة الواجب توافرها حال دعم وموالاة اسرائيل، ومهما لقيت من معارضات من الوجوه التقليدية مثل ايباك التي باتت تهم التجسس على المصالح الامريكية تلاحقها في الاعوام الاخيرة.
والحاصل ان فلسفة جديدة يمكن القول انها تولد في الاشهر الاخيرة في الرحم اليهودي الامريكي، ترى ان الدفاع عن مسار السلام وحتمية قيام دولة فلسطينية هو امر جوهري لاستمرار الدولة اليهودية وحتى لا تغرف في بحر الكراهية والمرارات والعداوات عبر آلتها العسكرية كما يجري المشهد الان في غزة والا فان تحذير جورج مارشال وزير خارجية امريكا بشان الخطر الديموغرافي العربي سيتحقق عاجلا او اجلا وساعتها ستضحى اسرائيل فصلا منسيا جغرافيا في تاريخ المنطقة العربية وتبقى في التاريخ احجية مثل احاجي الحروب الصليبية ومأساة من ماسي ظلم الانسان للانسان.
وتبقى الاشارة واجبة كذلك الى امر مهم وهو حدوث شقاق ونزاع كبيرين بين يهود امريكا وجماعات اليمين المسيحي المعروفة باليهو صهيونية، فقد شنت منظمات يهودية امريكية مؤخرا حملة شعواء على المسيحيين الأصوليين، فعلى سبيل المثال قالت جماعة مكافحة التمييز اليهودية ADL أنهم يرون أن اليهو ـ مسيحيين يشكلون الخطر الأكبر على أمريكا العلمانية ووسائل الإعلام اليهودية والمفكرون اليهود يطلبون راس بات روبرتسون quot; رئيس ومؤسس التجمع المسيحي والعدو الأول للسامية والجميع يطالب بمحاكمته وبمفعول رجعي... لماذا رغم انه روج لاطروحات إسرائيل أمس واليوم ويفعل غدا؟
لأنه عندما كتب عام 1991 كتابه الموسوم quot; النظام العالمي الجديد quot; أشار إلى دور النخبة المصرفية quot; في البلاء الذي حاق بالعالم من مؤامرات وحروب عالمية وانقلابات واغتيالات طالت حتى الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن ولم يكن يدري أن تلك النخبة من أحفاد روتشيلد والماسونيين هم من اليهود الذين لم يغفروا له ذلك واعتبروا تحالفه مع الحزب الجمهوري تحالف شيطاني.
والمؤكد أن هذه الجزئية غيض من فيض مترامي الأطراف يجعلنا نتساءل هل يحاول يهود أمريكا الليبراليون الفرار من براثن تحالف الأصوليين الذين ساروا في درب طويل مع ايباك وأمثالها؟ وهل الهدف النهائي يبقى خدمة دولة إسرائيل بطريق عقلاني عملياتي؟ ربما يكون ذلك كذلك فيما يبقى المقطوع به انه مع نهاية إدارة بوش الثانية يجد أنصار إسرائيل في أمريكا أنفسهم أمام علامات استفهام مقلقة حول المستقبل.