لا شيء يثير الضحك أكثر من مواطن عربي يتحدّث عن الديمقراطية ومفهومها وآلياتها وسبل تطبيقها. وطبعًا المحاضرات هذه تأتي بعد أن يكون هو نفسه قد تشرّبها من بلاد الديمقراطية الغربية، وعاد إلينا بنظرياته المكتملة المكملة عنها. وبما أنّنا قوم يغلب طبعنا على تطبعنا، فإن الصورة تبدو مضحكة للغاية. فيخرج quot;عربي ديمقراطيquot; ويتحدث عن الإعتدال والأوطان الديمقراطية، داعيًا إلى quot;ضرب عملاء تلك الدول بأقسى الوسائل الممكنةquot;، ومطالبًا بـ quot;قطع رؤوس الجماعات المتطرفة تلكquot;،... ومتمنيًا quot;حرق الأخضر واليابس تحت أقدام الحزب الفلانيquot;.
وطبعًا بما أن quot;الجماعات المتطرفة والعملاءquot; مفهوم فضفاض يحتمل الكثير من وجهات النظر وفق اتجاه بوصلة ذلك الديمقراطي، فإن ذلك المصطلح قد يشتمل على عدد كبير من العرب من ضمنهم أنت... والغريب في الأمر، أنك ستجد المتحدث في مرحلة ما يدعو إلى قتلك وأنت لا تدري فعلاً لماذا.
وطبعًا وبما أن الديمقراطية المعربة تفترض الكثير من الضرب وقطع الرؤوس وهدم المنازل على رؤوس أصحابها... فإنها بالتأكيد تتضمن الكثير الكثير من كلمة العملاء التابعين لسوريا وإيران. والمثير في الأمر بأسره أن المصطلحات هذه نادرًا ما تجد طريقها الى القاعدة... وإلى quot;الشيخquot; بن لادن، لكنها دائمًا تجد سبيلها إلى quot;السيدquot; الفلاني.

حين إلتهبت سماء غزة بالنيران خرجوا علينا افواجًا أفوجًا يتحدثون بديمقراطية من بلاد الديمقراطية عن أهمية سحق حماس.
لا بل ذهبت ديمقراطية بعضهم الى حدودها القصوى، فقرروا أن يحشدوا طاقاتهم الفكرية واقلامهم الخلاقة الى الدعوة الى قتل وقصف وحرق كل من لا يستسيغ ديمقراطية اميركا واسرائيل.
إلتهبت سماء غزة واحترقت ارضها، قتل اطفالها ونساؤها وشيوخها.عائلات بأكملها أبيدت وما زالت الأفواه تتحرك بالكلمات نفسها...المجتمعات الديمقراطية...أقضوا على حماس... أقتلوهم هم ومن يدعمهم.
فعلاً لا شيء يثير الضحك من هؤلاء المتشدقين بالديمقراطية ونظريات الحرية، وهم لا يفقهون منها شيئًا. لا يعرفون من الديمقراطية سوى الكلمة، وما بين الحرف الاول والاخير تطرف وتعصب وكره للاخر وطائفية وفوقية غبية تستند الى كونه quot;عربيًاquot; تجرع الديمقراطية من منابعها. والسؤال يبقى من اي منبع تجرع هؤلاء الديمقراطية الموعودة لأنه وعلى ما يبدو تم تزويدهم بالنوع الفاسد منها.

وكي ندخل في مصطلح الإستهبال هذا، سنعود قليلاً إلى حقبة quot;السنة والشيعةquot;.
فمنذ مدة من الزمن وكل ما يحدث يصنف طائفيًا... ولعلّ أكثر ما يظهر quot;الإستهبالquot; العربي في أبهى صوره هي الحيرة التي تملكتهم حيال quot;غزةquot;.
فالمعضلة هي على الشكل التالي:
غزة حماس... سنية الطائفة، شيعية الهوى؟!
فحماس وحزب الله وفق التقسيم quot;المقاوماتيquot; في خندق واحد، لكن حماس سنية وحزب الله شيعي.
حماس وحزب الله وجهان لعملة واحدة!
كيف يمكن لذلك ان يتحقق... فحماس سنية الانتماء وعلى فلسطين ان تبقى سنية الانتماء والهوى... وعلى حزب آخر غير حزب الله ان ينادي بتحرير القدس... وعلى مسؤول آخر غير المسؤول السني ذلك انتقاد حزب الله حين يطرح الحديث عن تحرير القدس.
الإستهبال العربي بطبيعة الحال جعل الدماء quot;السنية تلكquot; تتجمد امام حلين، فإما تغلي في عروقها امام الدماء المهدورة ظلمًا في غزة او تجري بهدوء دماء الاعتدال الدبلوماسية.
وعلى ما يبدو فإنها لا تزال حائرة من امرها... تقف امام معبر رفح وتفكر.
ما أهمية من ينادي؟ وما اهمية من ينتفض من اجل غزة؟ ما اهمية تظاهرات متناثرة هنا وهناك؟
فلتنتفض الشعوب بأسرها، من سيقف بوجهها حينها...لا أحد. فلا السلطة ولا رجالها ولا الكراسي والعروش ستبقى مكانها.
متى اصبحت الشعوب العربية بائسة الى هذا الحد، متى اصبح موت عربي مدعاة تسلية لعربي اخر.
..كلا لم تعد الحياة كما هي منذ بداية الحرب.. ومن أمكنه أن يحيا حياته بشكل طبيعي فهو عربي ابله تجرع الاستهبال العربي حتى تجمد دماغه عن العمل.
في غزة يقطن عبد الله وابراهيم ونجلاء، في غزة يقطن مليون ونص مليون من لا نعرف لهم اسما ولم نر لهم وجها.
في غزة عبد الله وابراهيم ونجلاء. ما زالوا احياء الى الان، يلملون اشلاء اقارب لهم.لعلهم يشعرون بالخوف او بالبرد او بالجوع.لعلهم لم يناموا منذ ايام..لعلهم يبحثون عن سقف يحميهم..لعلهم ولعلهم..
في غزة عبد الله وابراهيم ونجلاء..في غزة مليون ونص مليون فلسطيني يريدون الحياة..يريدون ان يعيشوا..بكرامة.كلمة لا يعرفها كثير من المتشدقين والمتنمرين والمجاهرين باحقية نظرياتهم وهم يحدقون باشلاء اطفال تحمل عاليا.
في غزة قضية وكرامة وعزة..وحق ونضال..ورجال.