تبدأ الحكاية دائمًا بكان يا ما كان، لكن القصة التالية لا تتضمن أميرة ولا أمير ولا نهاية سعيدة. إنها قصة واقعية أكثر ممّا تحتمل حكايات quot;كان يا ما كانquot;.

تبدأ حكايتنا حين تعرفت الفتاة التي سنطلق عليها اسم لينا على quot;نبضهاquot; الشيعي في مرحلة متأخرة جدًا من حياتها، كما جاءت معرفتها بالآخرين متأخرة جدًا ايضًا.

في قريتها الجنوبية الصغيرة، لم تصنف والدتها يومًا البشر وفق طوائفهم، ولم تقل يومًا كلمة سني او درزي او مسيحي.وإنما بحكم تواجدها في تلك البقعة تحديدًا كل ما كانت تعرفه هو quot;الإسرائيليquot; الذي يقصف قريتها وقرى أصدقائها، إضافة الى اليساريين الشيوعيين كون احد اقاربها quot;الشيعة quot; كان ينتمي الى اليساريين الشيوعيين وطبعًا حركة امل الشيعية ولاحقًا حزب الله.

احبت لينا تلك الفترة من حياتها، وجدتها فكرة رومانسية جميلة ان يشبهها كم من يدب على هذا الارض وان يؤمن بقضيتها..الصدمة الاولى كانت حين بدأت مرحلة الاستماع الى نشرات اخبار تلفزيون الشرق الاوسط واذاعة صوت الجنوب التابعين لاسرائيل بما انهما كانا المحطتين الوحيدتين التي يصل بثهما الى تلك البقعة من لبنان.مخربون وعملاء..هكذا كان يتم تصنيفهم وحينها كانت امها تتدخل لتصويب الكلمات والاخبار.

في تلك المرحلة كان نبضها الشيعي ما زال ساكنًا، وحتى حين انتقلت الى بيروت وقامت صديقتها _دليل الطوائف لديها_ بتعريفها الى مفهوم جديد لتصنيف البشر لم يتحرك نبضها.
هذا سني وذاك درزي وتلك مسيحية..جارتها quot;السنية quot; تشتم quot;علي quot; حين تتشاجر مع جارتها الشيعية الاخرى التي تشتم بدورها quot; معاوية quot;..


مشاهد كثيرة مختلطة ومربكة طبعت في تلك المرحلة، ومع ذلك ابقت نبضها الشيعي ساكنًا.
ارتأت لينا بعد ذلك ان تختلط باليساريين -الذين كانوا باغلبيتهم من الشيعة ايضًا _بعد ان كرهت تصنيفها وفق طائفتها اينما حلت، وكرهت اكثر الحاجب المرفوع والتأخير في اتمام المعاملات حين لا يروق لأحدهم كلمة شيعية التي قررت دولتها ان تضعها على اخراج قيدها.

في بلادها يروق لدولتها ان تصنفها فور ولادتها، فتكون طائفتها دمغة مع صفعة الطبيب على مؤخرتها.
لقد تم تصنيفها..والان عليها الانطلاق في حياتها.

خلال السنوات الاخيرة انفجر نبضها الشيعي..حاولت ان تستنجد بميولها اليسارية وشعارات الـ quot;لا للطائفية quot; لكنها لم تنفعها في مرحلة انهالت الشتائم والاتهامات من كل حدب وصوب. لم تتمكن من احتواء طائفتيها حين هوجمت شقيقتها بالحجارة لمجرد ان حجابها يدل على انها شيعية، ولم تحتمل ان تقوم بالتخطيط لمحاولة تهريب والدتها من منطقتها التي لا تنتمي إليها طائفيًا لان quot;الشباب علقواquot;. لم تحتمل ان يتم توقيفها للتفتيش لأن احدهم يدعى quot;عليquot; ويتواجد في منطقة لطائفة اخرى.

اما المثير في الامر كله بعد هذه المقدمة التي قد تكون ضرورية او مجرد سرد لا يغنى ولا يسمن عن جوع ان نبضها الطائفي لا ينتفض حين يتكلم امين الجميل عن السلاح والصراع مع اسرائيل، ولا يوعزها نبضها بالشجار مع احدى المعارضات التي ترفع يدها احتجاجًا على ايمانها المطلق بضرورة محاربة اسرائيل. هي تعترض لأن السلاح مع quot;الشيعة quot; لا بل وتنصحها بضرورة القول بانها محايدة كي لا يصنفها الاخر.

لكن الاخر صنفها منذ مدة بحيث لم يعد ادعاء الحياد ينطلي على احد. لقد صنفت قبل ان تتعلم نطق كلمة quot;ماما quot;.
تتحدث عن تاريخ quot;شيعة الجنوبquot; وتناقش بالاسباب التي دفعتهم لحمل السلاح فيأتي الجواب quot;حزب الله.. نصر الله والكثير الكثير من كلمة الشيعة quot;.

يبقى نبضها ساكنًا تمامًا حين يتكلم سمير جعجع عن انجازاته المقاومة، لا بل لا يتحرك بها سوى كلمة quot;يا للهولquot;. حتى حين يتحدث من تؤمن بقضيته لا ينتفض نبض الشيعة الخاص بها، قد يعجبها ما يقوله السيد حسن نصر الله وقد لا يعجبها.

لكنها ومع ذلك ما زالت شيعية الانتماء والهوية، وما زال نبضها الذي انفجر قبل سنوات كامناً في مكان، وحين يظهر مسؤول لبناني او عربي او رجل دين مهاجمًا ومتوعدًا ومصنفًا ومحقرًا ومحرضًا على quot;الشيعة quot; لا تجد سبيلاً لاعادة احياء نبضها.
حينها تشعر بانها تفوقت على هؤلاء بأشواط..هي الشيعية التي انفجر نبضها لم تعد تتأثر بهم.
لا بل تشعر انها ndash; هي quot;الوقود quot; المفترض لتحريضهم- افضل منهم جميعًا.
ليست بشخص محايد، ولا تدعي انها كذلك. هي مجرد شخص تم حقن نبضه الشيعي لسنوات حتى انفجر.
تعترف انها تنتمي الى طائفتها لأنها مكانها الآمن، ولأنها دافعت عنها حين اهملتها دولتها الكريمة.
تلجأ الى ابناء طائفتها حين تحتاج الى خدمة ما، لان quot;موظف quot; الطائفة الاخرى لن يخدمها ولو قدمت له ملايين الاسباب التي تقنعه بضرورة المساعدة.


والمثير للضحك في التصنيفات كلها انه وعلى الرغم من quot;انتمائهاquot; لطائفتها فمكانها ليس في اي مكان على لائحة quot;المفضلين quot;..
الطوائف الاخرى صنفتها، وطائفتها صنفتها، ودولتها لا تكترث بها او بغيرها ممن يملكون نبضًا مغايرًا.
يمكن لمن يملك نبضًا اقوى من الاخر ان ينتسب الى الاحزاب ويستفيد من الامتيازات والتسهيلات لفترة ما ثم يرمى في الشوارع كي يقتل ويقتل لأن نبضه انفجر اكثر مما ينبغي.


اما لاولئك الذين يملكون نبضًا _على غرار نبضها وليس بالضرورة شيعي الهوية _ ولا يريد الانتساب للاحزاب، ولا تريد الاحزاب منحه مساحة ما للتنفس ضمن طائفته ولا تريد دولته ان تمنحه الحد الادنى من حقوقه ان يهيم على وجهه..محتفظًا بنبضه علّه يسعفه وقت الحاجة.

مهلاً هل انفجر نبض احدكم.. يبدو أن لينا كانت السبب في ذلك اعذروها!

نسرين عزالدين