تمتلك المدينة في عالمنا العربي العديد من الخدمات العامة المقدمة للمواطنين مثل الخدمات البلدية، كالماء والكهرباء والمجاري والصحة من قبيل المستشفيات والعيادات الصحية والصيدليات، وخدمات البريد والتعليم والمحاكم وأجهزة حفظ الأمن وغيرها. في حين أن الريف يكاد يفتقر إلى معظم ذلك إن لم يكن كله. لهذا بقي الريف محافظا على نظمه التقليدية شبه البدائية فيما يتعلق بحفظ الأمن من خلال القانون العرفي، والطب الشعبي بديلا عن العلاجات والأساليب الحديثة طالما لم تكن متوفرة، والأمية المتفشية إلى حد كبير، وهكذا مع العديد من انساق الحياة الأخرى.
ووفقا لهذه المقارنة المختصرة، تتسع الهوة بين الريف والمدينة، فتجد أبناء الريف يلجئون إلى المدينة تعويضا لهم عن نقص الخدمات التي يعانوها، وبحثا عن سبل عيش إذا ما شحت سبل العيش الأساسية لديهم. ونتيجة لهذا الفارق الكبير أيضا في الفرص، فإن الريف قد حافظ على تخلفه في هذه المجالات (التعليم، حفظ النظام، الضوابط الصحية، القيم الحضرية الحديثة وغيرها). الأمر الذي جعله أمثولة للتخلف ومضربا للنكتة في أحيان كثيرة من قبل أهل المدينة. وقد خلق هذا حواجزا نفسيةً كبيرة في مسألة التكيف في مؤسسات العمل والجيش والأجهزة الأمنية والتعليم والوظائف، تحتاج إلى وقت أطول ليحصل اندماج يحظى بموجبه ابن الريف بالقبول أو التفهم أو إثبات جدارته. وهذا ما أضر بصورة غير مباشرة بمسيرة بناء المجتمع في عالمنا العربي.
ومن قنوات السخرية التي تمرر عبرها النكات والاستهزاء بأبناء الريف، هناك السينما والراديو والتلفزيون والمسرح، وذلك بطرح نموذج الريفي quot;الساذج والجاهلquot;، من خلال الأعمال الدرامية والمشاهد الكوميدية التي تتعكز على هذه الثيمة. فكم من عمل درامي مصري قدم الفلاح المصري على هذه الصورة وخاصة الفلاح الصعيدي (نسبة إلى إقليم الصعيد في الجنوب المصري)، ما خلق صورة نمطية (stereotype)، وتوقعات مسبقة ضد هؤلاء الناس، رغم أن هناك العديد من أعلام مصر من علماء وأدباء وسياسيين قد انحدروا من هذا الإقليم. وغالبا ما نرى ونسمع أوصافا تدلل على ذلك، مثل وصف اسم شخص ما إذا كان تقليديا بأنه quot;بلديquot; نسبة إلى البلد (الريف باللهجة المصرية)، ووصف سلوك ما بأنه quot;فلاحيquot; دلالة على تخلفه.
ولعل الأمر لا يختلف كثيرا في باقي البلدان العربية التي تتمايز فيها الحياة الريفية عن المدينية مع فارق شهرة الدراما المصرية. ففي سوريا تتكرر صورة الفلاح البسيط الساذج quot;مضحوكا عليهquot; في العديد من الأعمال السورية دون الحاجة إلى ذكر أمثلة من خلال الإمعان في لهجته المميزة حسب منطقته الجغرافية. وفي لبنان والمغرب العربي في تونس والمغرب والجزائر لا يختلف الحال أيضا.
وفي حال مشابه تقريبا حاولت بعض الأعمال الدرامية العراقية ترسيخ صورة تقليدية حول فلاح الجنوب العراقي وخاصة أبناء أقصى الجنوب أو الهور تحديدا. والغريب أن الأغلبية الساحقة من كتاب الدراما والممثلين والمخرجين ينتمون إلى الجنوب أو quot;الثقافة الجنوبيةquot; من لهجة وتقاليد اجتماعية وإن لم تفرق كثيرا عن مثيلاتها في باقي مناطق العراق، خاصة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن حي الثورة (الصدر حاليا) يعتبر صورة مستنسخة تقريبا من مدينة العمارة (جنوب شرق)، لهجةً وارتباطات والتزامات اجتماعية وثقافية. وقد خرجت هذه المدينة العديد من أعمدة الثقافة والرياضة خاصة في العراق.
وفي الفهم العراقي لدى ابناء المدن في الوسط والجنوب العراقي، هناك نعت quot;معيديquot; لوصف تخلف الفرد الريفي. رغم أن المعيدي والمعدان كما هو شائع أيضا هم مربي الجاموس وباعة اللبن ومشتقاته الذين يعيشون في الهور (مستنقعات مائية واسعة يشتهر بها جنوب العراق) أو على ضفاف الأنهار قرب المدن.
مما لا شك فيه أن هناك العديد من العيوب والسلبيات في سلوك أبناء الريف وفي مظهرهم أحيانا، وهذا لا يعني نفي العديد من تلك الصفات عن ابناء المدن، ولكن هل ينبغي الإمعان في نعتهم بالتخلف والجهل والسذاجة والتندر عليهم؟؟ وهل ينبغي تكريس الصور السلبية التقليدية حولهم خاصة من خلال وسائل الاعلام وفي الاعمال الدرامية التي تمارس تأثيرا كبيرا على عقل وذاكرة المشاهد وبالتالي تساهم في سلوكه واحكامه وتوجهاته القيمية.؟؟
لماذا لا نكرس صورة الفلاح المنتج، والكريم والشهم الذي يؤثر غيره على نفسه. الوطني الذي يدافع عن وطنه، المخلص لأرضه، المتعاون مع أبناء محيطه الاجتماعي، مثلما ننتقد التعصب القبلي لديه واضطهاد المرأة والسلوك الجاف في بعض الأحيان، والتصرفات التي نعتبرها quot;غير متحضرةquot;؟؟ فهذه الصفات والطباع هي نتاج بيئته الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية. فلو توفرت له سبل العيش والخدمات المتوفرة لدى المدينة، لكان سلوكه مشابها لأبنائها إلى حد كبير. أنظر كيف ذابت الحواجز بين الريف والمدينة في البلدان الصناعية. فهناك لا تكاد تميز بين ابن الريف ونظيره ابن المدينة. بل إن ابن الريف يعد محسودا لدى ابن المدينة، كونه يعيش في بحبوحة اقتصادية مؤكدة لما يمتلكه من استقرار اقتصادي واستقرار المسكن الذي يقع عادة في محيط عمله، بالإضافة إلى توفر كل الخدمات الموجودة في المدينة، من كهرباء وماء صالح للشرب وتليفون وخدمات انترنت وغيرها.
إننا نناشد هنا وسائل الإعلام عامة وتلك التي تنتج وتبث الأعمال الدرامية ذات التأثير الأقوى بينها أن تعدل من توجهاتها تلك، وأن تساهم في تنمية الريف والشخصية الريفية، من خلال طرح مشاكلهم والبحث عن حلول ومعالجات لها، بدلا من تكرار السخرية منهم. ففي تنمية الريف تنمية للبلد عامة، حيث أن رفع ثقافة ووعي الريفي سيعود مردوده على ابن المدينة الذي يأكل منتجاته الحيوانية والنباتية ومطلبه فيها أن تكون نظيفة وصحية على أقل تقدير. وفي استقرار ابن الريف في قريته أو أرضه الزراعية تخفيف من الأعباء على الخدمات التي تقدم له (ابن المدينة)، واستقرار لأمنه الغذائي وتوفير فرص عمل أكثر. وبالنتيجة هي تنمية للبلد عامة.

متخصص بعلم الاجتماع- لندن: [email protected]