اعتمدت جل الدول العربية غير النفطية على عجز الميزانية كأحد الوسائل التي تسمح بالتوسع في الإنفاق بدرجة أعلى من المداخيل العمومية (ضريبية و غيرها). و هذه فكرة مستوحاة من نظرية اللورد quot;كاينزquot; التي تزعم أن الزيادة في الإنفاق الحكومي من شانها دعم الطلب الإجمالي على السلع و الخدمات مما يشجع على مزيد الاستثمار و الإنتاج.
حسب التقرير العربي الموحد الأخير، بلغ عجز ميزانية الحكومة من الناتج المحلي الإجمالي في الدول العربية غير النفطية ما يلي: مصر 7،5%، الأردن 5،5%، سوريا 3،5%، و تونس 2،5% ، بينما حصل فائض استثنائي طفيف في المغرب.
انعكس هذا العجز المتواصل سنة بعد أخرى على قائم الدين الخارجي (التراكمي)، الذي بلغ النسب التالية من الناتج المحلي الإجمالي: تونس 56%، الأردن 51%، مصر 26% (لكن مع دين داخلي كبير) و المغرب 21%، و هذه نسب مرتفعة مقارنة مع الدول النامية الأخرى.
و الفكرة الأساسية التي أود تقديمها للقارئ في هذا المقال أن مثل هذا العجز في الموازنة السنوية للحكومات العربية غير مجدي، أي انه من الأفضل لو تكتفي الحكومات بميزانية متعادلة لا تتجاوز فيها النفقات المداخيل المتأتية من الضرائب و المصادر الأخرى. فكما يحتاط الفرد من اللجوء للبنوك للاقتراض، لا تجني الحكومة فوائد تذكر من الاقتراض، حيث يتم هدر جزء كبير من هذه الأموال في مشاريع غير مجدية، كما يتم تحويل جزء من هذه الأموال بناء على اعتبارات سياسية قد تتناقض مع أسس الجدوى الاقتصادية. و هذا ما يفسر ndash; من وجهة نظري ndash; ضعف نسب النمو الاقتصادي في الدول العربية على المدى الطويل، حيث لم تستطع دولة عربية غير نفطية واحدة تحقيق نسب النمو الاقتصادي للنمور الاسياوية (نسب نمو اقتصادي سنوي بحدود 7% و ما فوق)، و كان أعلى معدل نمو من نصيب تونس، الذي بلغ حوالي 5%.
لعل تجربة دولة تشيلي على يد وزير المالية quot;أندري فيلاسكوquot; خلال السنوات الأخيرة خير مثال على أهمية تفادي عجز الميزانية الحكومية. قام هذا الوزير بعد تعيينه بإنشاء صندوق خاص يستثمر جزءا من دخل الدولة من صادرات النحاس، التي ارتفعت بصفة استثنائية في السنوات الأخيرة نتيجة ارتفاع الأسعار، يتم استثمار دخله في الخارج، على أن يتم اللجوء إليه في الحالات الاستثنائية في المستقبل. و هذا ما يحصل حاليا حيث استطاعت حكومة تشيلي تخصيص برنامج إنعاش اقتصادي بلغ نسبة 2،8% من الناتج المحلي الإجمالي، أي 3 إضعاف معدل باقي دول أمريكا الجنوبية.
بالنسبة للدول العربية غير النفطية لا توجد مدا خيل هامة من صادرات المواد الأولية، لذلك لا أدعو لفائض في الموازنة الحكومية، لكن هذا لا يبرر اعتماد العجز كمبدأ حتى لو كان في حدود 3% من الناتج المحلي الإجمالي و هي النسبة القصوى التي اقرها اتفاق quot;ماستريختquot; لدول اليورو.
لإعطاء مصداقية لهذه السياسة الجديدة، من الأفضل أن يتم تضمين منع عجز الموازنة الحكومية في مواد الدستور، بحيث تكون كافة الحكومات المتعاقبة ملتزمة به، و لا يتم تجاوزه إلا في الحالات الاستثنائية و لمدة سنتين متتاليتين كحد أقصى.
انه لمن الخطأ الاعتقاد أن مثل هذا النص الدستوري سوف ينعكس سلبا على اقتصاد البلاد. فالإنفاق الحكومي مرتفع حاليا و يبلغ كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي 40% في الأردن، 32% في مصر و تونس، 28% في المغرب و 27% في سوريا. و هذه نسب مرتفعة بالمقاييس التاريخية للنمو الاقتصادي المعاصر، مما يعني أن هذا المستوى من الإنفاق الحكومي غير ضروري، و في تقديري تتجاوز سلبياته الفوائد المرجوة منه. التعديل الدستوري المقترح سوف يفرض على الحكومة ترشيد نفقاتها و الحد من الهدر و إعطاء دور اكبر للخدمات التي تعتمد حاليا على القطاع العام مثل التعليم العالي و الصحة و النقل و الاتصالات، و كذلك مشاريع البنية التحتية التي ثبت بالتجربة نجاح القطاع الخاص المحلي و الأجنبي في انجازها و إدارتها بصفة أفضل من الحكومة.

كاتب المقال محلل إيلاف الاقتصادي و خبير سابق بصندوق النقد الدولي
[email protected]