كثر الحديث هذه الأيام عن إفلاس مؤسسات اقتصادية كبرى مثل مصنعي quot;كرايسلرquot; و quot;جنرال موتورزquot; للسيارات في الولايات المتحدة الأمريكية. و بالرغم من أن الإعلام العربي ndash; و حتى العالمي ndash; نقل هذه الأخبار من وجهة نظر سلبية، إلا انه من المهم التنويه بان آلية الإفلاس تمثل احد أهم آليات عمل اقتصاد السوق، و غالبا ما ينتج عنها مؤسسات جديدة أفضل من سابقاتها من ناحية الإدارة و جودة الإنتاج، مما يصب في صالح المستهلك و الاقتصاد الوطني ككل.
قد يكون الإفلاس في شكل عملية تصفية للمؤسسة التي فشلت في امتحان السوق. في هذه الحالة يتم تسريح العمال و بيع أصول الشركة ndash; من بنايات و آلات إنتاج ndash; و يكون العمال و مالكو أسهم الشركة اكبر الخاسرين. لكن حتى في حالة التصفية هذه قد يستفيد الاقتصاد الوطني من العملية إذا ما تم استعمال الأصول المشتراة بصفة أفضل من السابق.
مثل هذا النموذج للتصفية الكاملة للمؤسسات المفلسة قد يكون الأقرب لما هو معمول به في الدول المتخلفة التي تفتقر إلى إطار قانوني و قضائي يساعد المؤسسات المتعثرة على إعادة هيكلة نفسها بنفسها للنهوض من جديد. لكن التجربة الأمريكية الرائدة لإشهار الإفلاس بناء على quot;الفصل 11quot; تؤكد وجود بديل هام من المهم الاقتداء به في الدول العربية.
إشهار إفلاس quot;كرايسلرquot; في 30 ابريل الماضي و quot;جنرال موتورزquot; يوم الثلاثاء 2 يونيو لا يعني التصفية الكاملة للمصانع، و إنما إعادة هيكلتها لتحويل هذه المؤسسات إلى شركات جديدة قادرة على المنافسة. في هذه الحالة، يوفر quot;الفصل 11quot; حماية للدائنين (الذين استثمروا سابقا في الشركة بشراء سنداتها). على سبيل المثال، منحت الحكومة الأمريكية دائني quot;جنرال موتورزquot; الذين تدين لهم الشركة بحوالي 27 مليار دولار نسبة 25% من رأسمال الشركة الجديدة. لكن الأهم في هذه الآلية العجيبة إنها تمكن الشركة المتعثرة من إلغاء بعض التزاماتها مثل الإيفاء بدفعات الدين السابق و دفع بدل للعاملين المتقاعدين، و هي التزامات فرضتها نقابة عمال السيارات في حالتي quot;كرايسلرquot; و quot;جنرال موتورزquot; نتيجة التأثير الكبير الذي كانت تلعبه نقابة العمال quot;UAWquot; .
و الأهم، تعتمد عملية الهيكلة على مطالبة الشركتين الجديدتين تقديم إدارة جديدة - مجلس إدارة جديد في حالة quot;جنرال موتورزquot; و دارة شركة quot;فياتquot; الايطالية في حالة كرايسلر- . و بينما يتحمل المالك الجديد لكرايسلر عملية إعادة هيكلة الإدارة و عملية الإنتاج، ضخت الحكومة الأمريكية 30 مليار دولار لتمويل خطط الإنتاج الجديدة لجنرال موتورز، و التي تتماشى بصفة أفضل مع طلب السوق على سيارات صغيرة، اقل استهلاكا للطاقة و صديقة للبيئة.
بطبيعة الحال لا يمكن أن تمر هكذا هيكلة دون تكلفة. بالنسبة لجنرال موتورز، على سبيل المثال، سوف يتم شطب 35 ألف وظيفة، و سوف يتكبد الدائنون جزءا من الخسائر، كما سوف يخسر المتقاعدون الكثير من المزايا. لكن لولا الإطار القانوني للحماية القضائية للفصل 11 ، لن يكون هناك من خيار غير التصفية الكاملة للشركات المفلسة أو ضخ الدعم الحكومي إلى ما لا نهاية، و هو هدر غير مبرر لأموال دافعي الضرائب.
اليوم و الدول العربية تعتمد برامج إصلاح و إعادة هيكلة لاقتصادياتها الضعيفة نتيجة حمايتها المفرطة خلال العقود السابقة من المنافسة الخارجية و ضعف البنية التحتية للتشريعات و المؤسسات، من المهم إعادة النظر في قوانين الإفلاس مع الاستئناس بالفصل 11 في أمريكا الخاص بإفلاس المؤسسات التجارية، و كذلك إعادة هيكلة النظام القضائي بإنشاء محاكم متخصصة للبت في قضايا الإفلاس بسرعة و بالخبرة المطلوبة.
كاتب المقال محلل إيلاف الاقتصادي و خبير سابق بصندوق النقد الدولي
[email protected]
التعليقات