كتاب السبت

هل يمكن أن ينسحب موضوع ذو شأن محلي على مجمل الفكر والنظرية السسيوثقافية العامة؟
نعني هنا بالتحديد: هل يمكن تحويل موضوع مثل: القبيلة والقبلية، حين يتجلى حضورها في بلد ما، ليصبح ظاهرة عامة في كل البلدان؟
نئد هذا السؤال قليلا ونضعه في الخلفية الإدراكية، لنلج إلى أحدث كتابات الدكتور عبدالله الغذامي: quot; القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثةquot; الصادر عن المركز الثقافي العربي ببيروت في طبعته الأولى 2009
في هذا الكتاب يسعى الغذامي إلى الوقوف على ظاهرة القبائلية، باعتبارها تندرج تحت مفهوم العرقية، ويرصد في هذا الصدد ظاهرتين، أو صورتين حيث
يقول الدكتور الغذامي في المقدمة أن هناك صورتين ثقافيتين متقاربتين وكلتاهما تمثلان سمات بارزة من سمات وعلامات المرحلة الراهنة، ويضيف: من أكثر السمات الراهنة، هو البروز القوي للعرقيات والطائفيات والمذهبيات ومثلها القبائلية، وهي كلها تمثل عودة للهويات الأصولية بأقوى صيغها حتى لتبدو أشد حدة مما كانت عليه قبل مرحلة كمونها المؤقتة في فترات مضت، وهي تكشف عن خروج للمكنون إلى العلن سياسيا وثقافيا ومعتقديا وسلوكيا ويقابل ذلك تراجع للمعاني الكبرى في المثاليات والحرية والوحدة. ويلحظ الغذامي أن تلك صورة وتجاورها صورة بارزة ثانية تصاحبها وتمثل سمة مهمة من سمات العصر الثقافي وهي ما يراه الناس ـ كل الناس ـ من أننا في زمن العقلانية والعلم والانفتاح الكوني زمن يتراوح بين الحداثة وبين ما بعد الحداثة حتى لكأن الصورتين تنقض إحداهما الأخرى.
وهو يرى أن ذلك يمثل صورة كونية، تنتشر في العالم، ففي أوروبا نهضت العرقيات quot; لتصنع تاريخا حديثا في التطهير العرقي كما في البلقان، وفي النفصالية السياسية والتقسيمات الطائفية في إيرلندا، وفي التمترس الثقافي كما في قانون صون العلمانية في فرنساquot; وفي وجود المحافظين الجدد في أمريكا، وهو يعزو ذلك إلى أربعة أسباب، يمكن إيجازها في:
-الخوف ببعده الأسطوري الجديد الذي صنعته الصورة الإعلامية الجبارة في كشف مناظر الخراب والموت والمجاعات والحروب وانهيار البيئة، وهو خوف كوني جعل الثقافة البشرية بحالة سيكولوجية حساسة، وهو ما يؤدي إلى اللجوء إلى الوهم والأسطورة لتحصين الذات، وحميتها، عبر بعث التحيزات الفئوية بأصنافها الطائفية والمذهبية والعرقية.
-سقوط الطبقة الوسطى وما تمثله من رمزيات وقيم حداثية سياسية واقتصادية، التي كانت تلامس أحلام الناس في التحرر والتعلم والوعود الاقتصادية والسياسية، ولكن انكسار الوعود كسر معه الطبقة وأضاع الحس التفاؤلي بالحياة، وبالقيادات والسياسات وصار المستقبل مع هذا مظلما وغير واعد، خاصة مع ظهور الاقتصاد المعولم والسوق الحرة بصيغتها الاستحواذية المستهترة بكل ما هو إنساني وعاطفي.
-انهيار المشروع الكوني في التعليم، وتلاشي الوعد الكبير بأن التعليم هو المنقذ الأسطوري للبشر من أمراضهم الثقافية.
-نسقية الثقافات، من حيث الأصل والتكوين مما يجعل النسق في حالة تربص دائمة ينقض متى ما حانت له الفرصة، وهذا ما يحدث دائما ويحرف الجميل الثقافي إلى قبح نسقي.
اصطلاحيا، يفرق الغذامي بين القبيلة والقبائلية باعتبارها تضاهي: العنصر والعنصرية، أو الشعب والشعوبية، ويشير إلى أن quot; مبحث القبائلية هو فرع عن مبحث العرقية، والعنوان الجامع لهما هو الهويات الأصولية، والتي هي معنى واقعي يتجاور مع معنى الما بعد حداثةquot;.
ويؤكد الغذامي أن عودة الأصوليات إفراز جانبي لمرحلة العولمة، ومرحلة ما بعد الحداثة حيث ظهرت الهوامش لتعبر عن ذاتها، فاختلطت المفاهيم حتى صارت الرجعية المغرقة في رجعيتها تتجاور وتتصاحب مع الحداثة الفائقة.
وتتكون التشكيلة الفصلية للكتاب من عدة عناوين تجسدت في فصول ست يتناول فيها المؤلف: هويات ما بعد الحداثة، والإسلام والقبيلة، والمستعرب وأنواع العرب، والعائلة بوصفها قبيلة جديدة، وثقافة القبيلة، وإعادة اكتشاف القبيلة، والأصول.

هويات ما بعد الحداثة:

استغرق الكلام حول القبيلة والقبائلية نحو (60) صفحة تقريبا هي مجمل صفحات الفصل الأول، الذي تناول فيه الكاتب المسألة بشكل مصطلحي، عرج فيه على مفاهيم مثل: الحسب والنسب، والعرقية، كما تطرق إلى تقسيم ابن خلدون للعرب إلى: العرب العاربة، والمستعربة، وعرب تابعة للعرب، والعرب المستعجمة، وذلك في سياق بيانه لمصطلح:quot; العرقيةquot; كما تناول مسألة الهوية، وما بعد الحداثة، وخلص إلى القول: quot; إن الهويات هي منتوج ثقافي يحضر اليوم بقوة كإحدى سمات مرحلة (ما بعد الحداثة) وهي ردة فعل على إخفاقات وعود (الحداثة) التي كانت تعد بالعقلانية والليبرالية والعلموية مع تبشير مثالي بالحرية والنعتاق الذاتي والجمعي، ولكنها وعود تبخرت مع نيران الحروب العرقية والدينية وانتشار الأوبئة بالأمراض والتلوث والجشع الماليquot;.
وتعبر هذه الهويات عن نفسها بصيغ متنوعة، من مثل اللون كما عند السود في أمريكا، والمعتقد كما عند شعوب شبه القارة الهندية، وفي اللغة كما هي الهوية العربية الأكثر واقعية ودلالة. ويرى الكاتب أن القبائلية هي رديف أزلي لهوية العرقية، وهي منظومة معنوية تنبني على شرط الاستجابة للتحديات، وما هو إنساني وفطري يتحول إلى عنصري حسب ضواغط الظروف. وبعد أن يتناول المؤلف موقف الإسلام من القبيلة، ومحو الفوارق القبلية، على أساس أن الله خلق الناس من ذكر وأنثى، بحسب الآية الكريمة:quot; يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم quot; وبالتالي كان التعارف، والتقوى هما السمتان الجوهريتان في موقف الإسلام من الشعوب والقبائل والناس جميعا، ينتقل المؤلف إلى القبيلة العربية، وعلاقة الفرد بالقبيلة في الموروث الثقافي والتاريخي العربي، حتى يصل إلى قراءة الوضع القبلي اليوم، وهو قد بدأ يتجلى في عدة ظواهر تتسم بالانحياز إلى القبيلة وإلى تقاليدها وأعرافها.

إعادة اكتشاف القبيلة:

في الفصل الخامس الذي يحمل عنوان:quot; إعادة اكتشاف القبيلةquot; وهو الفصل الجوهري في الكتاب، يراود المؤلف ويرود مجال تجلي القبلية أو quot; القبائليةquot; في المجتمع السعودي، ويتساءل بداءة: كيف يعود الناس إلى القبائلية في زمن كثر فيه التعليم من جهة، وصارت فيه الصحوة الدينية من جهة ثانية، وهو زمن يسمى بزمن الحداثة وما بعد الحداثة، وهو زمن العلم والحريات العقلانية وزمن الانفتاح الإعلامي المهول؟
وكيف يعودون إلى الطائفية والعرقية والعنصرية الثقافية بكل أنواعها؟
لا ريب أن هذه الأسئلة المشروعة والمشرعة في وجه العصر الراهن تحتاج للكثير من التأمل والتدبر، ومن ذلك إعادة توجيه الأسئلة تارة أخرى: هل إن بلادنا العربية عبرت فعلا من زمن الحداثة، أم أنها كانت ضيفا بريئا على هذا الزمن اللهم بعض اللمعات الحداثية هنا وهناك التي تعلقت بالأدب والفن ولم تؤثر في البنية السسيوثقافية العربية بشكل واضح. تغيرت الملابس والأزياء والحضارة والوجوه وبقي الحال كما هو عليه قبلية في قبلية.
ثم هل هناك أوجه مقارنة بين ما يحدث من تحولات راكضة في الغرب في أوروبا وأمريكا وبين ما يحدث من تحولات سلحفائية في عالمنا العربي والإسلامي والعالم الثالث بوجه عام؟
من هنا فإن مسألة القبلية والقبائلية لا تنطبق بالضرورة على العالم الغربي فيما هي مبررة في دول العالم الثالث الأكثر تخلفا، ونحن نرى ما يحدث مثلا من صراعات بين القبائل الإفريقية مثل الهوتو والسوتو مثلا، أو بين القبائل في الكونغو، ونيجيريا، بل ومالي والسنغال والنيجر وتشاد.
إن العودة للقبيلة تصبح حقيقية في بعض البلاد العربية، ويرصد الكاتب بعض ظواهر هذه العودة ومنها وجود سؤال القبيلة في المدرسة، حيث دخول أبناء البدو إلى المدارس وتجمعهم في المدن طرح سؤال القبيلة، ورجوع بعض العائلات والأسر إلى المسمى القبلي، وصناعة شجرة نسب قبائلية وإقامة الحفلات بإعادة التعارف مع القبلية، مما عزز من فكرة القبيلة وأعطى شعورا أن القبلية مطلب نفسي واجتماعي وقيمي. كما أن بعض الشباب بدأ في وضع إشارات وعلامات على لوحات سياراتهم تكشف عن قبيلة صاحب السيارة، ويتبدى ذلك أيضا في مهرجانات ما يسمى بquot; مزايين الإبلquot; وهي المهرجانات التي ظهرت في السنوات الأخيرة من أجل اختيار (أزين) جمل أو ناقة، وفيها بذخ ومظاهر للزينة والوجاهة وتنظمها بعض القبائل تحت مسمى القبيلة. كما يشير الكاتب إلى أن الإنترنت زاد من توتير الخطاب الثقافي العام وتأزيمه حيث الحرية المطلقة في التعبير واستخدام الأسماء المستعارة، مما يحمل معه من غغراءات خطيرة ومنها فتح باب للعنصريات وللهجائيات، ويصل المؤلف إلى القول: إن مشاكلنا هي في بنيتنا الثقافية التقليدية المنغلقة، وهي بنية يرتع فيها النسق ويجد له فيها منافذ كثيرة كالمناطقية والفئوية والطائفية والمذهبية، وهي كلها صيغ نسقية انحيازية وعنصرية وتمييزية صارخة.
هكذا يرصد المؤلف عددا من الظواهر التي بدأت في التشكل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، وهي ظواهر على الرغم من وجودها يصعب القول أنها ستكون ذات تأثير بالغ، أو انها ستحدث نوعا من التحول الخطير أو الصغير لأنها مشمولة في نهاية الأمر بقرار الدولة وسلطتها، وهو الأمر الذي يظل مرئيا بشكل واضح وجلي خاصة وأن هذا الأمر لم يتعد المهرجانات الشعبية، ولم تتمثله النخب التي تقود الوعي الجمعي، وتؤثر فيه بحضورها وصوتها. كما أن ظاهرة القبيلة والقبلية لا ترتبط بالعالم الغربي بالضرورة الذي ينتمي إلى فصيلة ثقافية أخرى أكثر منهجية وواقعية، وأكثر اطرادا ونموا تقنيا ومعرفيا، من هنا يمكن إعادة السؤال الذي بدأنا به: هل يمكن أن ينسحب موضوع ذو شأن محلي على مجمل الفكر والنظرية السسيوثقافية العامة؟
نعني هنا بالتحديد: هل يمكن تحويل موضوع مثل: القبيلة والقبلية، حين يتجلى حضورها في بلد ما، ليصبح ظاهرة عامة في كل البلدان؟
إن البحث عن وشيجة لفكرة ما، أو رأي ما داخل السياق الفكري الحديث والمعاصر يضاهي تماما البحث عنها في التراث القديم، فهذا نوع من التقليد الفكري الذي يتعادل تماما مع التقليد الفقهي، وهنا ينتفي الاجتهاد النقدي والثقافي، كما ينتفي الاجتهاد الفقهي. إلا إذا كانت هناك ظاهرة حقيقية ملموسة بالفعل، لحظتئذ ستقع الفكرة في أفق اليقين.