قبل أسبوعين ظهر فيديو لرجال من النصرة في سوريا يعدمون امرأة وهي تتوسل إليهم بحبهم للنبي أن يتركوها لترى أولادها مرة أخيرة قبل إعدامها. بعد أسبوع ظهر فيديو آخر لإعدام امرأة أخرى في ظروف مشابهة. في الحالتين كانت التهمة متعلقة بالشرف والعفة. قام بعملية الإعدام مجموعة من الرجال القساة الغلاظ الذين يرون في هؤلاء النساء خطرا أكثر من خطر نظام البراميل الأسدي. وعلقت هذه الإعدامات العبثية في ذهني من يومها. إنها جرائم لا يمكن اثباتها وإن تم اثباتها فليست تستحق القتل وهي ليست من أولويات الأمور في منطقة من العالم تغرق في الفوضى والنزوحات الجماعية والمرض والفقر. ثم يقف هؤلاء الرجال بكل عنجهية ويختطفون من هذه النسوة أكبر حقوقهن وهو حقهن في الحياة. ويقرأون نص الحكم مع آيات تتخللها أحاديث لتعطي جرائمهم شرعية باسم إله الموت الذي يؤمنون به ويظهرون كمجموعة من السحرة التي تقرأ طلاسم شريرة قبل إعدام ضحاياها لتشرب من دمها.
من أين جاء هؤلاء أتساءل. كيف يصل الإنسان لهذه الدرجة من القسوة والغلظة وعدم الإحساس بقيمة الحياة الإنسانية؟ كل إنسان يولد على الفطرة ويكون طفلا بريئا. ما الذي يوصل الطفل البريء ليصبح ذاك المجرم لاحقا؟ لا شك أن هناك الكثير من الظروف والأفكار والاعتقادات الخاطئة التي ساهمت في صناعته. والأهم أننا نحن...أنا...أنت ...وأنتِ...وأنتم من يساهم في صناعة الإنسان منذ أن يكون طفلا. حتى في أماكن بعيدة عن أماكن الحروب والقتل نجد قيم القسوة والغلظة تقدم على أنها الشيء الصحيح وأنها - وخاصة بالنسبة للأطفال الذكور- مقياس للرجولة والقوة.
أحد الأيام ذهبت لأخذ ابني الصغير من الحضانة ففوجئت بأنه تسبب بكسر إصبع ولد آخر في الحضانة بينما كانا يلعبان ألعابهم الصبيانية الهوجاء. خجلت واعتذرت في البداية ولكنني أيضا لمت المشرفات، وكيف يسمحن لمثل هذا اللعب الخشن بأن يحصل بين الأولاد. وكتبت رسالة اعتذار مطولة لأهل الولد مع هدية للطفل. في اليوم التالي عندما ذهبت إلى الحضانة وأعطيت الرسالة لمعلمة طفلي لتسلمها للأهل اقتربت مني وربما لتخفف عني خجلي وانزعاجي همست: "يقبر قلبي رجال قوي." ذهلت لوهلة من كلامها. وتذكرت كم ننسى ونتناسى ما علمنا إياه الرسول الكريم الذي قال "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب." المعلمة كانت طبعا تحاول التخفيف عني ولكن ما قالته كان له دلالات عن ثقافاتنا التي نعيشها ونعيد تكرار تصنيعها بتوريثها لأولادنا. لا أتحدث فقط عن الثقافة الإسلامية هنا. كلنا من إسلاميين وعلمانيين ويمينيين ويساريين ومتعلمين وغير متعلمين لا نعمل كفاية على إبقاء عقول صغارنا نظيفة وأقرب للإنسانية كما خلقت. قيم وأخلاق العنف ليست حكرا على ثقافة دون غيرها. العالم الغربي المتحضر الذي "يستنكر" القتل والفوضى التي تحدث في الشرق هو من يبيع الأسلحة لجميع الأطراف المتنازعة ويقبض مقابلها أموالا طائلة. وهناك على أفق المعاناة بين صفقات الساسة متضررون ونازحون وجياع. إن بحثنا عمن يصنع الأسلحة الأكثر فتكا فهو الغرب وإن بحثنا عمن يصدر قيم وأخلاق العنف فلن تجد أكثر منها في الثقافة الغربية وأفلامها. مصيبتنا واحدة والحل برأي هو في التركيز على قيم السلام التي نعطيها لأطفالنا، والتفكر في أساليب أكثر لينا نلتزم بها نحن حتى يأخذها منا أطفالنا –الذين يمتصون شئنا أم ابينا ما نفعله وليس ما نقوله.
جيل واحد من أطفال يعيشون في أجواء أكثر سلاما ولغة أكثر انفتاحا سيجعلهم يقدسون الحياة، ويرون في "الآخر" أنفسهم. وهذا كفيل بأن يقضي على الحروب والفقر وأن توجه طاقات البشرية إلى حل المشاكل وشفاء الأمراض ومواجهة الكوارث الطبيعية. ولكن ما يحدث في الواقع هو أن معظم مواردنا تذهب للتسلح والأمن القومي ومحاربة الإرهاب. وبعض المستفيدين حريصون على أن نبقى على إيماننا بأن غلظة أكثر وقسوة أكثر وأسلحة أكثر كفيلة بخلق عالم أفضل!
هؤلاء المستفيدون لن يكونوا حريصين على أهمية صناعة الإنسان كبديل لمحاربة الإرهاب والعنف. ولهذا لا نرى استنفارا في هذا الاتجاه. بل على العكس، أي حديث يتضمن موضوع تربية الأطفال يعتبر "حديث نسوان" أي غير لائق بالرجال المثقفين والمفكرين. العناوين التي تتصدر المنابر الفكرية والإخبارية الأكثر شهرة دائما هي أخبار الحرب والدمار والتكتيكات السياسية والاقتصادية التي تسيّر الحروب. وإن وجدنا مقالة تتحدث عن كيف تزرع الصدق في الأطفال، أو حب الآخرين والمساعدة، أو كيف ننمي ثقة الأطفال بأنفسهم نجدها في مجلة نسائية بين موضوع "أجمل ألوان هذا الموسم" وقصة خائبة عن "الرجل الذي تزوج جنية."
أنا شخصيا أنفر من أسلوب الوعظ وأعرف أنني لن أستطيع أن أعطي طفلا موعظة في الأخلاق والتحمل والمساعدة والتعاون. إن أردت أن توصل للأطفال أن هذه القيم هي ما سيصل بالإنسانية إلى مكان أفضل فلا طريقة أسرع للحصول على اهتمامهم وتركيزهم من القصص والأفلام. وقد بدأت بعض التوجهات الخجلة بصناعة بعض أفلام الأطفال ذات القيم التي أبحث عنها ولكن مقابل السيل العرمرم من الأفلام الأخرى التي ترفع العنف على منصة من الكريستال ما زال المحتوى الغالب بعيدا عن خلق ثقافة تفاهم وتعاون. ما نسنطيع فعله في الوقت الراهن هو أن نُخرج موضوع تربية الأطفال من مضمار "الغير مهم" إلى مضمار "المهم والمستعجل جدا." وأظن أن التوجه نحو علوم التربية والنفس صارت أمورا أكثر إلحاحا من التكتيكات الحربية وتحليل عناصر الجيوبوليتيك.
ستكون أدبيات وأفلام فيها مغامرة وشجاعة وتعاون أفضل استثمارا من الثقافة الحالية التي ننزلها في ضمائر أولادنا. لماذا لا نغير الحبكة الرئيسية؟ لماذا ترتكز مفاهيم الانتصار في افلام الأطفال على قتل الشرير بدل تغييره والتصالح معه؟ سيقولون لك إن الناس يحبون هذه الحبكة المألوفة. ولكن أليس معروفا أيضا أن الحبكة المتوقعة القديمة لا يريد أن يراها احد؟&
في النهاية هذا الطفل "الصغير" الذي يجلس أمام سيل من الأفلام بحبكتها المكررة والتي تبرمج قيمه ويشاهد سلوكنا ويمتص مشاعرنا يوما ما سيكون في مكان "الكبار" وقد يكون في أماكن يغير فيها مصائر الكثيرين. بل سيكون دائما هذا الطفل أو الطفلة في أماكن ستؤثر على الكثيرين بغض النظر عما سيقومون به. فكل إنسان صغير نوكله بالمهمة الكبيرة في الحفاظ على ذاكرتنا الجمعية، وإن لم نكن قادرين على رؤية الفيروسات التي حملناها أوزارا ممن سبقونا سنكرر كثيرا من المعاناة التي يمكن أن نختزلها.
&
- آخر تحديث :
التعليقات