"سنهلك لأننا، في تاريخ الجنس البشري، قد فاتتنا لحظة العثور على الحرية" (روبسبير)
تعلق الفيلسوفة الالمانية حنة ارندت على هذه النهاية المخيبة للثورة الفرنسية بالقول: "لم تكن مؤامرة الملوك والطغاة، بل كانت مؤامرة الحاجة والفقر التي تفوقها قوة هي التي ألهتهم طويلاً لكي يضيعوا اللحظة التاريخية. في هذه الاثناء كانت الثورة قد غيّرت اتجاهها، انها لم تعد تهدف الى الحرية...".
الكلام هنا عن الثورة الفرنسية، الملهمة لكل الثورات في العالم خلال اكثر من قرنين. ورغم ذلك، انتهت النهاية المعروفة: مقصلة باسم الحرية، ونابليون. مرجعيات فكرية تنتمي لعصر الانوار الثري بكل ملامحه، وقرن ثامن عشر فرنسي قدم للفكر رموزا مهمة مثل روسو وفولتير وديدرو ومونتسكيو... لم تشفع لتمنع المصير. الفقر برأي ارندت كان أقوى مما اسماه روبسبير "دكتاتورية الحرية". لكن في النهاية، ان الثورتين الفرنسية والامريكية تحول في التاريخ. الحرية هي الحد الفاصل الاول الذي اعطاهما صفة التحول، مع فرق أن الاطار المجتمعي في فرنسا كان يعاني من الفقر ويُعَامل بالشفقة، وهذا ما لم تعاني منه حرب التحرير الامريكية. والحد الفاصل الثاني انهما أول استخدام لمفردة "الثورة" التي كانت تطلق على ظواهر فلكية، لتتميز عن التمرد، الحرب الطائفية، الصراع العرقي، الانتفاضات الجماهيرية الباحثة عن استبدال الحاكم... بينما الثورة حركة شاملة تنطلق من الحرية، وتبحث عنها.
وبعيدا عن حوار المصير الجدلي لما حصل في فرنسا، والبحث في ايجابياته وسلبياته، وتأثيراته في محيطه الاوربي، وتحديدا الالماني والانجليزي... فإنها ماثلة أمام كل حراك جماهيري "ثوري" حصل فيما بعد. ونجد ذلك في محطات كثيرة منذ حراك التحرر الشعبي ضد الاستعمار ثم الانقلابات "الثورات" العسكرية التي اسقطت النظم الملكية بمبرر طرد المستعمر وتحقيق العدالة. وكانت المقاربات واضحة وصريحة في حراك ما يسمى بالربيع العربي. لكن مثول الثورة الفرنسية واستحضارها لدى بعض الشرائح التي فجرت الحراك، غير كاف لإضفاء صفة الحرية عليها ولا حتى الثورة كمصطلح سياسي اجتماعي ظهر منذ 1789.
ما حصل في العالم العربي خلال قرن، وضع مسبقا للحرية شروطا، وقيد المفهوم برؤية ايديولوجية أو طائفية أو سياسية... الواقع كان أقوى من الفرنسيين لينتظروا ثورات اخرى وخيبات وانتكاسات وحروبا، ويحققوا ومعم جوارهم الاوربي النتائج المتقدمة منذ الحرب العالمية الثانية. اما العرب، فلم يكن الواقع، متمثلا بالفقر، المشكلة لوحده. انما التاريخ، البدائية، غياب الحاضر، العمى عن رؤية الحرية. انه الواقع والفكرة العمياء عن الحرية. لقد كانت هناك شريحة صغيرة في عموم البلدان العربية تفكر بالحرية باعتبارها قيمة عليا، هدفا ساميا، اما الاخرون فكلامهم عنها يشبه تسميتهم النساء المبرقعات بالحرائر، الحرية باعتبارها استسلاما للدين ومفسريه، او انصهارا في الانظمة وخطواتها. هي ليست حرية، ولا تعتمد المساواة، ولا يوجد ايمان بملكية الافراد لأنفسهم أو الحياة. الموجود مفاهيم بدائية تشبه الى حد كبير الأوصاف في سوق النخاسين.
هناك فعل ثوري بالفعل، الا أنه لا ينتمي للقيم الحديثة التي تكوّنت منذ الثورة الفرنسية، انما ينتمي لما قبلها، حراك جماعي يمثل تمردا، مطالبة بحقوق، بحثا عن تغيير سياسي، رغبة بالفوضى، بحثا عن استبدال عقيدة سياسية بأخرى، ولا يشفع له أن الثلة القليلة التي بدأته كانت تستلهم من الحرية مقولاتها. وهذا لا يسلب الحراك حقوقه، لأن ما جرى في العالم العربي منذ عقود يمثل استهتارا بالانسان بالقتل والسجون والإذلال، وتدمير الطاقات ومنع لحصول أي امكانية للتغيير في مدى منظور. الانظمة الجمهورية اسقطت نظيراتها الملكية لتنتهي الى حكم اسري وراثي بطريقة مثيرة للاشمئزاز، والانظمة الملكية المتبقية قننت فسادها لتطيل مكوثها. ومتوقع وسط كل هذا ان تكون المواجهة بعقل طائفي، او ببحث عن بدائل من القوى التقليدية كالدينية، او لتحقيق شيء بسيط من الرفاه لسد الجوع...
الحقوق لا تكفي لإضفاء القيم الحديثة على الفعل المطالب باسترجاع ما سلب. بينما في العالم العربي يُستسهل استخدام مفردة الثورة لكل محاولة استرجاع للحقوق. أطلقت على العشرات من أحداث التمرد والانتفاضات والانقلابات والتظاهرات... والمفارقة أنها جميعا لا تصلح نموذجا، لا على مستوى الفعل ولا الفكرة... يمكن أن نصفها بهزات عنيفة، وربما أحدثت فرقاً، غير أنها لم تُحدث تحولا في الثقافة نحو البحث عن الحرية، بل تعيد الانماط السابقة بعناية فائقة، لتجعل البدايات كالنهايات.
ان ما جرى محاولة شعبية مؤثرة، لكنها لا تنتمي الى المفهوم الحديث عن الثورة، لأن أهم عنصر وهو الحرية غير حاضر فيها الا وفق مفهوم مشوّه وكاذب. مفهوم قد يمثل "مؤامرة" تأويل الحرية باللاحرية.&&
&
التعليقات