لفت نظري حدثين خلال الشهر الماضي، الأول يتعلق بالقوانين الأمريكية المنظمة لسلامة ونقاوة ماء الشرب، والتي عقب عليها الرئيس الأمريكي باراك أوباما، والآخر الزلزال المالي الذي نتج عن رفض الاستفتاء البريطاني بقاء المملكة المتحدة في الإتحاد الأوربي. فقد كتب ارثر ديلاني، بصحيفة هافنجتون بوست، في 28 من شهر يونيو الماضي مقال بعنوان، قوانين ماء الشرب ضعيفة جدا، بحيث أنها مررت ماء شرب فلنت المسمم، فيقول الكاتب: "القوانين الفدرالية لماء الشرب رخوة جدا بحيث أنه حتى مدينة فلنت، بولاية مشيجن الأمريكية، لم تعتبر متجاوزة للقانون، في الوقت الذي يعتمد مواطنيها على الماء المعدني للشرب والطبخ منذ سنتين، من خوفهم من تسمم ماء الحنفية بالرصاص، والمعروف بأن مادة الرصاص تؤدي للتخلف العقلي في الأطفال، وأمراض مزمنة في الكبار. وقد أعلن المجلس الأمريكي للدفاع عن الموارد الطبيعية، بأن ثمانية عشر مليون أمريكي يصل لحنفيات بيوتهم ماء، يخالف المستوى المطلوب من الحكومة الفيدرالية، بل أنه هناك خمسة الاف منطقة، تخالف نقاوة مياه حنفياتها القوانين المفروضة من الدولة. ويبقى السؤال: إذا كانت مياه مدينة فلنت، الملوثة بسم الرصاص، والتي سببت تشوهات عقلية للاطفال وأمراض مزمنة في الكبار، لم يذكر في تقرير المجلس البلدي، فكم عدد البلديات التي لديها تحديات خطيرة مع الماء المسمم، أخفيت تقاريرها تحت السجاد؟" تصور عزيزي القارئ في أكبر وأثرى ديمقراطيات العالم الرأسمالية، يشرب المواطنون ماء ملوث بالرصاص لينتهي أطفالهم بأمراض عقلية مزمنة. فهل حان الوقت لطريق ثالث، بعيد عن الشيوعية الفاشلة، ورأسمالية السوق الحرة المتوحشة؟
بل وتمتد أزمة الرأسمالية إلى أعرق ديمقراطية في العالم، وهي ديمقراطية المملكة المتحدة، حيث أهتز إقتصادها بشكل مفاجئ في الأسبوع الماضي، حينما أعلن نتائج الاستفتاء البريطاني حول ترك الاتحاد الأوربي، والذي أدى لهز العالم، بصدمة اقتصادية عالمية جديده، ليفقد الإقتصاد العالمي أثنين تريليون دولار، أي ألفي مليار دولار في يوم واحد، وليفقد الجينه الاسترليني في ذلك اليوم أكثر من 30% من قيمته، مع أن النتيجة لم تكن مفاجئة، حيث بينت التوقعات حول البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوربي بأنها تتراوح حول 50% في كل من الجهتين، ومع ذلك هزت النتيجة إقتصاد العالم بأسره، مما يؤدي لطرح سؤال هام: كيف يمكن أن يكون الإقتصاد العالمي مهزوزا بهذه الدرجة، بحيث أن إنفعالات مجموعة من متخصصي التعاملات المالية الخطرة في "الوول استريت" تقرر مصير الاقتصاد العالمي بأسره؟ فإلى أين نقلت سوق الوول ستريت رأسمالية سوق العولمة الحرة للقرن الحادي والعشرين؟ ولنكرر نفس السؤال مرة ثانية: هل نحتاج لطريق ثالث غير الشيوعية الفاشلة، ورأسمالية سوق العولمة الحرة المتوحشة؟
عاش الغرب بعد الحرب العالمية الثانية ديمقراطية برأسمالية ذات مسئولية مجتمعية، أدت لنمو الطبقة الوسطى المتعلمة والمدربة، في الوقت الذي لعبت حكوماتها دورا رئيسيا في إدارة أمور الدولة من خلال القطاع العام، بالإضافه بأنه قد أعطى القطاع الخاص المسئول دورا مهما في تطوير الصناعات التكنولوجية والتجارة. وبعد أن أثبتت الشيوعية فشلها بإنهيار الإتحاد السوفيتي في عام 1991، بعد أن زار الرئيس السوفيتي غورباشوف فرنسا، ولاحظ ما حققته الديمقراطية الأوربية برأسماليتها ذات المسئولية المجتمعية. وقد بدأت بعد ذلك تقوى رأسمالية الوول ستريت الأمريكية المسيطرة، بعد أن برزت افكار جديدة لعلماء الاقتصاد الأمريكيين، كبروفيسور ملتون فريدمان، عميد كلية الاقتصاد بجامعة شيكاغو، والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وأبهرت رأسمالية السوق الحرة الرئيس الأمريكي دونالد ريجن ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تشر، مما أدى بهم للدفع لتحرير السوق من القوانين والانظمة، والعمل على خصخصة القطاع العام، مع خفض مسؤليات الحكومة من الرعاية الاجتماعية والصحية، وليبدأ فقد التوازن بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص، ليستلم القطاع الخاص مسئولياته الصناعية والتجارية والاقتصادية والإجتماعية، وفي عالم العولمة الجديد، وبتكنولوجيته التي أزالت الحدود بين الدول، لتلعب شركات العولمة الضخمة دورا رئيسيا في تشكيل ديمقراطيات ورأسمالية الألفية الثالثة.
وقد أدى تخلص سوق العولمة من قوانين والأنظمة المقيدة، إلى بروز قوة مالية جديدة في المجتمع الدولي، مثلتها سوق الوول ستريت، باسواقها المالية وأسهم الشركات العالمية، مما أدى لتحولها لقوة حاكمة جديدة، تشتري بأموالها لوبيات البرلمانات، بل والبرلمانيين، ورجال الحكومة، ورجال القضاء، بحيث أن وصل التطرف لأن يصدر مجلس القضاء الأعلى الأمريكي تشريع بأن التمويل اللامحدود للإنتخابات من رجال المال شرعي، كجزء مهم من الحرية الشخصية، لينتهي العالم بفوضى السوق المالية، مع الإزمة الاقتصادية لعام 2008، والتي أدت لقرب إنهيار النظام المالي العالمي، لولا تدخل حكومات العالم، بضياع التريليونات من الدولارات، للمحافظة على المؤسسات المالية التي كانت السبب الرئيسي لهذه الأزمة، ولم تمضي ثمان سنوات إلا والعالم أمام صدمة مالية جديدة، والتي تفاقمت في الاسبوع الماضي بخروج بريطانيا من الإتحاد الأوربي. كما برزت ظواهر هذه الصدمة في حوارات الانتخابات الأمريكية، ليتقدم المستقلين على شعبية الحزبين الجمهوري والديمقراطي، والذي أدى ليصبح المرشح المستقل رونالد ترمب، هو المرشح الوحيد للحزب الجمهوري لدخول المنافسة في الإنتخابات الأمريكية لعام 2016، بينما نافس السناتور برني ساندرز المستقل، السيدة هليري كلنتون بقوة، في الترشح لتمثيل الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة. ويبقي السؤال: كيف يمكن أن ينفرد مياردير شعوبي ديماغوجي متناقض، للترشح الرئاسي في حزب الرئيس أبراهام لنكون؟ فهل فقد الشعب الأمريكي ثقته برجال السياسة؟ ام هو غاضب على كذب وعودهم؟ أم أنهم ينتقمون من السياسيين التقليديينن، بترشيح سخصية تعبر بما تؤمن به بصدق، ولو لم تكن مقبولة بأفكارها الديماغوجية من الكثيرين؟ وهل نحتاج لأختراع الديمقراطية والسياسة والحكومة والرأسمالية من جديد؟ وبإختصار شديد هل نحتاج لطريق ثالث غير الشيوعية الفاشلة ورأسمالية سوق العولمة الحرة المتوحشة؟
يناقش البروفسور البريطاني أنطوني جدنز، مدير كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية السابق، في كتابه الطريق الثالث، الحاجة لطريق آخر بعد ما تجاوزت التطورات التكنولوجية الحلول الاقتصادية والاجتماعية القديمة التي طرحتها الرأسمالية والأشتراكية. ويؤكد بأن الهدف العام لسياسة الطريق الثالث هو مساعدة المواطنين لاختيار طريقهم من خلال الثورة الكبيرة التي نعيشها اليوم بين العولمة والتحولات في الحياة الشخصية والعلاقة مع الطبيعة المحيطه بنا. ويعتقد البروفيسور بأن هناك حاجة لخلق التوازن بين العدالة الاجتماعية والحرية الفردية مع تعريف جديد للحقوق والواجبات، ليؤكد بأنه لا حقوق بلا واجبات ولا سلطة بلا ديمقراطية، بل بأن هناك ضرورة لإعادة مجتمع القيم والأخلاق والمحافظة على تناغمه مع الطبيعة. كما يصر على ضرورة معرفة كيفية التعامل مع العولمة والتطورات العلمية والتكنولوجية المرافقة لها، وأهمية فلسفة المحافظة على الثقافة المجتمعية والتقاليد المنظمة، بالإضافة لأحترام الإجماع العالمي، وعدم الشذوذ عنه، مع ضرورة الاهتمام بتوفير الخدمات الاجتماعية من خلال تأمين الصحي للمواطنين وضمان للتعليم وإصابات العمل والبطالة والتقاعد.
وقد أظهرت الاستطلاعات الغربية بأن هناك رضى شعبي بالنظام الديمقراطي اللبرالي وبنسبة 90% بين الشعب الأمريكي والأوروبي، مع أن الجميع يطالب أيضا بضرورة تطوير الديمقراطية. فقد بين الاستفتاء الشعبي بالانخفاض المتزايد في ثقة الشعوب بالبرلمانات، بعد أن تحولت البرلمانات لمجالس أيديولوجية، بينما تطالب الشعوب بأن تكون مواقع للإنجازات الاقتصادية والاجتماعية. ويقترح البروفسور جدنز رؤية مستقبلية للتعامل مع التحديات القادمة، فيؤكد على ضرورة تآلف الحكومات مع عالم العولمة الجديد والتحولات الجديدة في تكنولوجية الاعلام والسياسة. وأن تجدد شرعية السلطة على اسس ايجابية، مع ديمقرطة الديمقراطية باللامركزية، وضرورة ربط قرارات الحكومات ليس فقط بالوضع المحلي، بل أيضا بالأوضاع العالمية.
ويقترح البروفيسور بالحاجة لزيادة الشفافية وتحديث الدساتير والانظمة، وزيادة كفائة الحكومة، وإهتمامها بالتخطيط، وتقليل مسؤلياتها التنفيذية. وضرورة نقل قطاع الخدمات للقطاع الخاص، مع تنظيم تأمين الخدمات الاجتماعية في الرعاية الطبية والتعليمية والتقاعد وحالات البطالة المؤقتة، كما يجب ألا يحرم أية مواطن من هذا التأمين، والذي يجب أن تنظمه وتقوده الحكومة. وقد أقترح البروفيسور بالحاجة للتفكير المبدع لكي نخترع مفهوم جديد للحكومة ومسؤلياتها، وطرق تقوية كفاءتها أمام سلطة السوق، وكيفية تطوير التواصل المباشر بين الحكومة وافراد الشعب، وذلك بنوع من الديمقراطية المباشرة، والاستفتاء الالكتروني لدراسة القرارات الحاسمة مع الشعب. وأكد على الحاجة لديمقرطة القضاء ليتوفر بالمحاكم محلفين من الشعب، لخلق تناغم جميل بين الحكومة والشعب، وضرورة مشاركة المواطنين في مناقشات البرلمان وقرارات الحكومة من خلال الانترنت. وتدريب المواطن على المناقشة والتعامل مع المعضلات المجتمعية المعقدة، وأعطاء المؤسسات الشعبية والمحلية دورا للمشاركة في أيجاد الصيغ المناسبة للتعامل مع المعضلات، والعمل معها للتعامل مع التحديات البيئية والجرائم المجتمعية.
كما ناقش البروفيسور تحديات العولمة، بعد ان بدأت تختفي الحدود بين الدول بوسائل الإعلام والانترنت، وبرزت الاتحادات الاقتصادية الكبيرة. كما بداءت تبرز على السطح ثقافة فسيفسائية ملونة جميلة في الولايات المتحدة، وأخذت تنتشر من خلال إعلام التلفزيون والإذاعة والصحافة والكتب والأفلام السينمائية والانترنت ولمختلف بقاع الأرض. وينتقد البروفيسور العولمة بأنها كانت السبب لتباين الدخل، فيوضح بأن حوالي 60% من زيادة الدخل في الولايات المتحدة في التسعينيات كانت من نصيب 1% من الشعب الأمريكي، بينما بقى دخل 25% من فقراء الحال كما هي خلال الثلاثين سنة الماضية. كما أثبتت حرب العراق بأن زمن الامبرياليات قد انتهى ومفهوم القوى العظمى قد بهت وانتصار الحروب قد أصبحت خرافة أسطورية. والسؤال الملح هل ستعمل منطقة الشرق الأوسط لاختيار طريقها الثالث، لينمو اقتصادها، وتتطور مجتمعاتها، وتحافظ على قيمها وتقاليدها وثقافتها وأخلاقياتها، لتستطيع التعامل مع تحديات واقع العولمة الجديد، مع المحافظة على السلم والأمن والأمان؟ ولنا لقاء.
د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان
التعليقات