بدون شك، لقد أثبتت الطبقة السياسية التي نصَّبها الاحتلال الأمريكي، ومن بعده الاحتلال الإيراني، أنها لا تصلح لقيادة وطن بحجم العراق، بتنوعه القومي والديني والمذهبي والسياسي والثقافي وموقعه وثرواته وتاريخه العريق.

فبعد فشل انتفاضة التشرينيين 2019، وخروج التيار الصدري من البرلمان، وإعانته الإطارَ التنسيقي (الولائي الإيراني) على السطو على السلطة، والتفرد فيها، أصبحت شرائح واسعة من العراقيين تقبل ما كانت ترفضه بالأمس، طمعا في خلاصها من هذه الورطة الخانقة.

والملاحظ هنا أن قطاعات شعبية واسعة أصبحت تراهن على نجدة خارجية، استنادا إلى ما يشاع عن تحول في المصالح الدولية وموازين القوى في المنطقة والعالم قد يُعجل بسقوط حكم المحاصصة القائم في العراق، والمجيء بسلطة جديدة قد تكون أفضل وأكثر خبرة وكفاءة ونزاهة. وكأن العالم الخارجي، وتحديدا أمريكا وحلفاءها، أكثرُ حبا من غيرها بسواد عيون العراقيين، وأكثر رغبة في إنصافهم وتحقيق العدالة والكفاية لهم ولأجيالهم القادمة.

أما الأمر الثاني فهو ترويج قطاعات واسعة من العراقيين لعودة حزب البعث العربي الاشتراكي، وتحديدا، النصف الثاني المهني المعروف بكفاءته ونزاهته ممن بقي من أتباع الراحل صدام حسين.

وأهم ما يقوّي هذا الحنين هي المقارنة الشعبية التلقائية غير المسيسة بين ما كان للدولة العراقية من هيبة، في عهد النظام السابق، وما كانت توفره من أمن وخدمات حياتية يومية لشعبها، رغم الحصار والعقوبات الدولية الخانقة، وبين حالات الفلتان الأمني والتدهور الفاضح في الخدمات في عهود ابراهيم الجعفري ونوريي المالكي وحيدر العبادي وعادل عبد المهدي ومصطفى الكاظمي ومحمد شياع السوداني.

وقد يكون هذا هو الذي جعل رغد صدام حسين تعلن عن قرب عودتها إلى العراق، ليس كمواطنة طبيعية تعود إلى وطنها، بعد غربة طويلة غير عادلة، ولكن لقيادة الشعب العراقي، كما فُهم من أسلوب خطابها الأخير وتلميحاتها.

ولكن، وبالتدقيق في وقعها العلمي والثقافي والكفاءة والخبرة السياسية المحلية والإقليمية والدولية يصعب التسليم بأن لها من المؤهلات أكثر من نسبها.

ثم إن هناك أمرا شخصيا مهما آخر يتعلق بما أجرته من عمليات تجميل فاقعة على وجهها، وهي الأرملة الفاقدة والدَها وأخوتَها وزوجَها وأسرتها التي تفرقت بين القبائل. وهو ما يلغي، في نظر العراقيين، كثيرا من وهج نسَبِها الذي كان عليها أن تحافظ عليه أكثر من سواه.

شيء آخر. ليس في علمنا أن حزب البعث، أو ما بقي منه، عقد مؤتمرا قطريا استثنائيا شاملا وانتخب قيادة جديدة، مخولة ومؤهلة، في أعقاب زلزال الغزو الأمركي وما تبعه من نكبات ظل أعضاءُ قياداته المتقدمة يدفعون أثمانها الباهظ عشرين سنة، لبناء الحزب من جديد، واستعادة قوته وتجاوز أخطائه الماضية، وتصحيح ما ينبغي تصحيحه من خطابه السياسي لمواءمة المرحلة الجديدة وإفرازاتها، دون المساس بعقيدته ومبادئه الثابتة.

كما لا أحد يعلم بأن عودة السيدة رغد المفترضة شخصية ذاتية، أم حزبية بعد حصولها على تفويض من قيادة الحزب.

خصوصا وأن الزمن أثبت وجود شريحة واسعة من بعثيين شرفاء عقائديين مثقفين محترمين من ذوي الفكر الديمقراطي، والدماثة في الخلق، والرقة في الحوار، لم يسجل عليها الشعب العراقي التورط في أعمال ونشاطات سابقة أضرت بسمعة الحزب لدى نسبة كبيرة من العراقيين. وهم الأكثر شرعية واستحقاقا للعودة إلى الساحة السياسية دون عوائق، ودون تداعيات ماضوية لا يقبلها العراقيون.

والملاحظ أن السيدة رغد لم تخرج في حديثها المذكور من إطار العموميات والصيغ المكررة السطحية العاطفية الساذجة. فهي لم تقدم تحليلا منطقيا معمقا للوضع السياسي العراقي والدولي السابق والحالي والآتي، ولم تدخل في صميم التشخيص العلمي الواقعي للجديد الذي تستطيع وتنوي تقديمه للشعب العراقي لكي تستحق القيادة.

وكل ما قالته، خلال مقابلة مع قناة المشهد، هو أن "لديها إرادة قوية في أن تكون جزءا من مرحلة وطنية قادمة في الوقت القريب".

بصراحة. إنها بإعلانها العاطفي الجديد تضع العصا في عجلة عودة الحزب (المنتظرة) إلى ساحة العمل السياسي، مستفيدا من أجواء القبول الشعبي المتنامي من قبل الشعب العراقي الذي كفر بالشلة الحاكمة الفاسدة الحالية، بعد أن يكون قد نبذ أساليب العمل الخاطئة السابقة، واعتمد ثقافة الحوار الديمقراطي، وأصبح يؤمن بالتداول السلمي للسلطة، فكرا وتطبيقا، والتخلي نهائيا عن اعتماد أسلوب الصدامات وسياسات الانتقام.

فهو، منذ تأسيسه في أواسط الأربعينيات من القرن الماضي، ومن أيام البعثيين الرواد الأوائل، وقبل أن يتسلم السلطة لأول مرة في شباط/ فبراير في العراق 1963 ثم 1968، كان يبشر، وبكل اعتزاز ومباهاة وفخر، بأنه حزبٌ انقلابيٌ لا يؤمن بالتداول السلمي للسلطة.

تنص الفقرة 6 من مبادئه الأساسية على أن "حزب البعث العربي الاشتراكي انقلابي يؤمن بأن أهدافه الرئيسية في بعث القومية العربية وبناء الاشتراكية لا يمكن أن تتم إلا عن طريق الانقلاب والنضال، وإن الاعتماد على التطور البطيء والاكتفاء بالاصلاح الجزئي السطحي يهددان هذه الأهداف بالفشل والضياع".

ومع الاعتذار للسيدة رغد، إن عليها أن تكتفي بعودتها العادية إلى وطنها بدون أثقال الماضي الملبد بالغيوم.