في ضوء دراسة تداعيات الإتفاق السعودي ـ الإيراني على إستنئاف العلاقات الدبلوماسية، اتجه بعض المحللين والخبراء للقول بأن الإتفاق يقوض إتفاقات أبراهام التي وقعتها إسرائيل مع دول خليجية وعربية عدة، وأن إسرائيل هي الخاسر الأكبر في هذا الإتفاق بزعم أن المملكة العربية السعودية لن تهتم بالمضي قدماً في مساعي التطبيع مع إسرائيل.

هذا الإستنتاج يحتاج إلى نقاش معمق لأنه ينطلق من فرضيات تبدو غير دقيقة أهمها على الإطلاق أن توقيع إتفاقات سلام مع إسرائيل يستهدف بناء حائط دفاعي أو مايعرف بمحور مواجهة مع إيران، وهذا الأمر لم تثبت صحته حتى الآن، بل هناك سياسات رسمية معلنة تثبت عدم صحة هذا الإفتراض، منها توجه دولة الإمارات لإستئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران عقب توقيع إتفاق سلام مع إسرائيل، في إطار توجه السياسة الخارجية الإماراتية للانفتاح على جميع الدول وتهدئة التوترات القائمة. وقد إستمرت أطر التعاون الإقتصادي والإستراتيجي بين الإمارات وإسرائيل ولم تتأثر بالإنفتاح الإماراتي على إيران، وهو إنفتاح لم يكن بالمناسبة توجهاً فردياً، حيث أكدت دولة الإمارات في عام 2021 أن حلفائها الخليجيين على علم بتحركاتها نحو إيران، كما أن التقارير الإعلامية كانت تؤكد وقتذاك أن هناك جولات محادثات تجرى بين السعودية وإيران بوساطة عراقية. الأمر الثاني أن مسألة تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل لا علاقة لها بإيران، حيث تتبنى الرياض موقفاً معلناً بشأن السلام مع إسرائيل ينطلق من إعتباراتها ومصالحها وحساباتها الخاصة ولا نعتقد أن "التحسس" من رد فعل إيراني مضاد يندرج ضمن هذه الحسابات، أو على الأقل لا يأتي في مقدمتها إن كان موجوداً بالفعل.
صحيح أن لدى إسرائيل رؤية إستراتيجية قائمة على حشد القوى الإقليمية لمواجهة التهديد النووي الإيراني، باعتبار أن الطرفين يستشعران الخطر ذاته، وهذه حقيقة يصعب نفيها في الواقع، ولكن الشواهد تؤكد بالمقابل أن التوجه تحو توقيع إتفاقات سلام مع إسرائيل لا يرتبط بشكل مباشر بهذه الرؤية الإسرائيلية، بل ينطلق من رغبة في التعاون الإقليمي والرغبة في ترسيخ ثقافة تعايش تنهي عقود الصراع التي عانتها المنطقة طويلاً، فضلاً عن أسباب وعوامل أخرى إقتصادية وعلمية وتكنولوجية لا علاقة لها بمسألة الحشد الإقليمي، الذي تردد في وقت ما أنه يستهدف إقامة "ناتو شرق أوسطي"، وبالتالي فإن إتفاقات أبراهام تمضي في مسار مواز لمسألة إستنئاف العلاقات بين طهران والعواصم الخليجية، وأنه لا تأثير لمسار على الآخر سوى بقدر محدود في ظل قناعة دول مجلس التعاون بضرورة تبريد الأزمات الإقليمية والإعتماد على الذات في تحقيق الإستقرار، في ظل تراجع الدور الأمريكي ورغبة هذه الدول في تجنب الصراعات والحد من التدخلات الأجنبية في شؤون المنطقة.

في ضوء ماسبق يمكن القول بأنه لا علاقة لإستئناف العلاقات بين الرياض وطهران بأي تفكير سياسي سعودي في مسألة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، فهناك موقف سعودي رسمي معلن في هذه المسألة، وهناك خطوات إنفراجية فعلياً تمت مثل السماح بتحليق الطيران الإسرائيلي فوق المجال الجوي السعودي، وجميعها خطوات وقرارات لا علاقة لها بإيران، لاسيما أن الحوار السعودي ـ الإيراني ليس مفاجئاً بل بدأ منذ عامين وتوج بوساطة صينية اختتمت بتوقيع الإتفاق في بكين.

الصين أيضاً من جانبها ـ باعتبارها باتت لاعباً مؤثراً في المعادلات الأمنية الإقليمية ـ لن تدفع باتجاه تقويض إتفاقات أبراهام، سواء لأنها لا تتضارب مع مصالحها الإستراتيجية أو لأن الصين تسعى بالأساس لضمان الأمن والاستقرار في منطقة الخليج العربي، التي تستورد منها نحو نصف احتياجاتها من موارد الطاقة.

في ضوء ماسبق، هل يمكن إعتبار إسرائيل طرفاً خاسراً في جردة حساب إتفاق إستنئاف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران؟
في الجواب على هذا السؤال يمكن القول أنه من وجهة النظر الداعية إلى بناء حشد واصطفاف إقليمي ضد إيران يمكن القول من دون مواربة أنها طرف خاسر بغض النظر عن حجم هذه الخسارة أو تأثيرها الإستراتيجي، ولكنها تبدو فكرة الخسارة نفسها مجرد مسألة نظرية مجردة لأن فكرة الحشد العسكري الإقليمي نفسها لم تكن قابلة للتطبيق، حيث استبعد الكثيرون من الأساس إمكانية انخراط الدول الخليجية في تحالف عسكري صريح ضد إيران.

باعتقادي أن المملكة العربية السعودية باتت تفكر سياسياً بشكل مختلف وتمتلك توجهات إستراتيجية طموحة للغاية، وبالتالي فمن الصعب بناء توقعات مستقبلية تتعلق بشأن موقف الرياض تجاه مسائل مثل تطبيع العلاقات مع إسرائيل انطلاقاً من أو بناء على ثوابت تقليدية أو قديمة، فكما أسلفنا، هناك حلحلة معلنة في الموقف السعودي تجاه إسرائيل، وهناك حراك إقليمي يصعب على الدبلوماسية السعودية البقاء بمنأى أو معزل عنه، وهناك تحركات واسعة ومتسارعة على قطعة الشطرنج الإقليمية والدولية لإعادة هندسة قواعد النظام العالمي في مرحلة مابعد أوكرانيا، والسعودية بثقلها الإقليمي والدولي، يصعب أن تفكر بعيداً عن هذه السياقات الإستراتيجية المتحولة، ولذلك فإن الموقف السعودي تجاه إتفاقات أبراهام قد يظل كما هو مرهونا بالمحددات التي أعلنتها الرياض في مناسبات ومواقف سابقة، أو أن يحدث إختراق نوعي كبير تحصل بموجبه السعودية على مصالح إستراتيجية ضخمة مقابل تعديل موقفها بشأن بعض الملفات، التي لا تزال تقيد توجهها نحو بناء علاقات رسمية مع إسرائيل، مثل القضية الفلسطينية على سبيل المثال. اما بالنسبة لإتفاقات أبراهام نفسها القائمة بالفعل، فلن يطرأ عليها أي تغيير يذكر ولن تتأثر بالأجواء الإقليمية الجديدة، على الأرجح.

الخلاصة أن إستئناف العلاقات بين الرياض وطهران لا يعني بالضرورة إنتفاء فكرة انضمام السعودية لاتفاقات أبراهام، لأن موقف المملكة مرهون بالأساس بقضايا وأمور أخرى ليس من بينها إيران، ولا يعني كذلك تقويض إتفاقات أبراهام القائمة، علاوة على أن الشواهد السابقة واللاحقة تشير إلى أن المنطقة تشهد تحولات متسارعة يصعب معها استبعاد أي فرضية، ولكن هذا كله يبقى مرهون إلى حد كبير بسلوك وسياسات إسرائيل، التي يتعين عليها أخذ هذه التغيرات النوعية في حساباتها والتصرف بما يحقق مصالحها مع الدول العربية والخليجية ولاسيما فيما يتعلق بتهدئة الأوضاع مع الفلسطينيين.