في الحقبة المحصورة بين عامي 1970 و1974، حيث شاء الزمن أن أمضي حياتي في ناحية"السعدية" التابعة لمحافظة ديالى، لم أك أتصور وقتها بأن تلك الحقبة ستشکل أقوى أساس لي في حياتي کلها، ولاسيما وإنني شعرت بالکثير من الحزن والالم عندما إنتقلت عائلتي من محافظة السليمانية الى ناحية صغيرة يجب عليك أن تذهب الساعات الاولى من الصباح الباکر لشراء اللحم من القصاب "أو حتى الخضراوات والطماطم" وإلا فإنك سترجع خالي الوفاض إذا ما ذهبت في الساعة السابعة صباحا کما حدث لي لأکثر من مرة!

في السعدية أو کما کان يسميها أهلها من الترکمان والکرد والعرب "قزرابات"، حيث کانت جذوري هناك، فقبر جدي يقبع في غرفة منفصلة في جامع "محمود باشا جاف" ومحمود باشا هو أخ لجدي الاکبر "محمد باشا جاف"، وکنت کلما أذهب للسوق الصغيرة للناحية لشراء الحاجيات أتفاجئ بأصحاب بعض الدکاکين أو حتى من أصادفهم في الطريق من رجال تجاوزوا الخمسين أو حتى الستين عاما من أعمارهم، يسألونني والدهشة في أعينهم؛ هل أنت أبن جمال بيك؟ وعندما کنت أجيب بالإيجاب أرى في أعينهم الحزن والالم الذي أفهم عمقه ومغزاه الآن، علما بأنني أشبه والدي الى حد بعيد.

والدي کان رجلا إقطاعيا أوصى له جدي بأغلب أملاکه، رغم إنه کان عنده أبنا وبنتا الى جانب والدي، لکن الاملاك الکبيرة لوالدي ذهبت أدراج الرياح بعد لقاءه العاصف مع عبدالاله الوصي على الملك فيصل الثاني، حيث تم سلبه تلك الاملاك مقابل فنجان قهوة کما کانت تذکر والدتي على لسان والدي، ولاريب إن عودتنا لهذه الناحية وکوننا في بيت للإيجار کان في حد ذاته يثير التعجب والاسى لدى أهالي السعدية الطيبين، وهذه الطيبة هي التي کانت وراء شعوري بنوع من الفرح والراحة التي لم أعهدها من قبل.

في هذه المدينة، زارنا ذات يوم شاب وسيم اسمه "ثروت"، وعملت بأنه أبن أبن عمتي، وکان بيتهم في قرية على بعد 3 کيلومترات من السعدية تسمى "الزهاوية" وتقع على نهر سيروان (الزاب الاسفل)، ودعاني لزيارة بيتهم وهناك، حيث منزل کبير جدا أشبه ما يکون بقصر محاط ببستان من أشجار البرتقال والليمون والرمان والعرموط والتوت ونخلة للتمر "الخستاوي" وهو نوع من التمر اللذيذ جدا ويمر من أمام البيت ساقية وتجد دورا صغيرة متناثرة هناك وهناك حول هذا البيت.

في هذا البيت، حيث إلتقيت أنا أبن الثلاثة عشر عاما بأبن عمتي الذي کان يبلغ وقتئذ أکثر من 40 عاما، فوجئت بمکتبته العامرة وبشغفه غير العادي في القراءة والمطالعة والتي کما ظهر إن ابنه ثروت قد ورثها منه، ولأنني کنت شغوفا ومولعا بالقراة والمطالعة فقد وجدت ضالتي في هذه المکتبة التي ساهمت في بلورة ثقافتي ورفدها بالکثير من المقومات الاساسية.

روايات آنست همنغواي وبيرل باك وجون شتاينبك وفيکتور هوغو وميشال زيفاکو وغيرهم الى جانب کتب قيمة أخرى مختلفة کانت تزخر بها مکتبة أبن عمتي، صارت لي بمثابة ندماء لا أملهم أبدا حيث کنت على موعد معهم في کل يوم خميس على جمعة حيث کنت أذهب بدراجتي الصفراء من السعدية الى الزهاوية لکي أنهل من تلك الکتب بکل نهم، وکانت والدتي تتندر بقولها لي: "الجندي ينتظر يوم الخميس على الجمعة لکي يذهب في إجازة مفتوحة الى أهله، أما أنت فتنتظر هذا اليوم لتذهب لقراءة الکتب"!

وقد کنت أنتظر على أحر من الجمر أيام العطل، وخصوصا عطلة نصف السنة والعطلة الصيفية، لکي أنعم بالمزيد من الوقت، وأقارن في أحايين کثيرة بين عصر الانترنت والثورة المعلوماتية الحالية وبين ذلك الزمن الجميل حيث کان الانسان يسعى جاهدا لکي يحصل على مبتغاه ويحقق أهدافه وآماله، وقطعا فإن اللذة الذي يشعر بها من عانى وقاسى من أجل الوصول الى هدف هي غير تلك اللذة السطحية التي يحصل عليها من يصعد على سلالم معدة له سلفا، کما يحصل في هدا العصر!

أبن عمتي الذي على الرغم من ميله للإنطواء على نفسه والمطالعة، فإنه عاملني معاملة طيبة جدا حيث کان يجعلني أشعر وکأنه صديق أو کمثيل له وکان عندما يتحدث ولاسيما بعد أن يشرب الکأس الثاني من العرق، ننصت له جميعا أنا وأولاده بکل جوارحنا، وکان يتحدث أحيانا في مواضيع وأمور وإن کان يطرحها بشفافية ووضوح لکنها مع ذلك کانت تبدو عميقة جدا وحتى إنني الان أشعر بأن الرجل کان أقرب ما يکون للفيلسوف، وأذکر جيدا بأنه کان وقتها من أکثر المتحاملين على مصطفى البارزاني الذي کان في ذلك الوقت بمثابة رمز قومي للأکراد، لکنه کان ينظر إليه من زاوية أخرى وأعتقد بأنني الان وفي ضوء ما يجري في إقليم کردستان، أجد نفسي ملزما بمشاطرته رأيه.

وکان أبن عمتي وفي الکثير من الاحيان يصب جام غضبه على "الاتحاد السوفياتي"، ويعتبرها أکبر دولة فاشلة في العالم وإنها ستسقط وستفکك وإن أمريکا ستصبح سيدة العالم، يومها کنت أشعر بالحزن عليه لأنني کنت أتصور بأن توقعاته هذه مستحيلة، لکن وفي أواخر الثمانينيات من الالفية الماضية وبعد الذي جرى للإتحاد السوفياتي، تذکرت أبن عمتي وعلمت بأن هذا الرجل قد سبق زمنه ولکن لم يحظى بنصيبه منها، وللحديث بقية.