في ظل ما يتداول سياسيًا وإعلاميًا من سيناريوهات حول مرحلة مابعد الحرب الدائرة في غزة، هناك أمور يجب الانتباه لها جيدًا أهمها أن من الصعب للغاية رسم سيناريو هذه المرحلة في ظل معطيات لم تتضح معالمها بعد، والمسألة هنا لا تتعلق بمصير حركة "حماس" الإرهابية وقادتها فقط، بل بأمور أخرى معقدة ينبغي التحوط لها جيدًا كي لا يتحول القطاع إلى مصيدة لجذب الاهتمام الاقليمي والدولي دون بقية جوانب القضية الفلسطينية الرئيسية والفرعية منها.
من بين النقاط التي ينبغي مراعاتها في مرحلة مابعد غزة هو دخول العامل الإيراني بقوة كلاعب رئيسي فاعل في المسألة الفلسطينية، حيث يصعب انكار الواقع القائل بأن إيران قد خرجت من وراء الستار ونجحت في فرض نفسها بقوة على معطيات الملف الفلسطيني، ولكن مايجب فعله هو الحيلولة دون أن تترجم طهران هذه المكاسب إلى نفوذ سياسي ودبلوماسي توظفه في فرض نفسها على أي مائدة تفاوض مستقبلية بشأن الفلسطينيين، ولاسيما أن من الصعب إزاحة العامل الإيراني من المشهد حتى لو تم القضاء على حماس وقياداتها في الصراع الحالي.
ثمة نقطة أخرى تتعلق بأن إيران قد لا تقف صامتة في حال اقترب الصراع في غزة من تحقيق هدف انهاء نفوذ "حماس" في القطاع، حيث يتوقع أن تدفع إيران بقوة باتجاه توسيع دائرة الصراع عبر أذرعها المختلفة، وهو سيناريو متوقع ومنطقي لأن هزيمة "حماس" ستحفز إسرائيل على مواجهة بقية مصادر التهديد الإرهابية التي واجهتها في حرب غزة، ونقصد هنا بالدرجة الأولى "حزب الله" اللبناني، وبدرجة أقل ميلشيا "الحوثي"، على أن تترك أمر الفصائل الموالية لإيران في العراق وبدرجة أقل في سوريا للقوات الأميركية. وهنا نشير إلى أن قادة الحرس الثوري يقومون الآن بإجراء قياسات ومقارنات معيارية لتوازنات القوى، وربما يتوصلون إلى استنتاجات مغلوطة بشأن حدود القوة الأميركية والإسرائيلية، بمعنى أن سير المعارك ميدانيًا في غزة، بغض النظر عن الخسائر البشرية والمادية التي لا تهم الإيرانيين، وبغض النظر عن طبيعة الحروب غير التقليدية التي لا تعكس الكفاءة القتالية الحقيقية للجيوش النظامية مهما بلغت درجة تطورها، ربما يغري هؤلاء بتوسيع دائرة الصراع لتحقيق حلم استراتيجي كبير وهو هزيمة إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة، وهو ما يفسر على سبيل المثال تصريح السفير الإيراني لدى أذربيجان، عباس موسوي، الذي قال فيه إنه "في حال تدخل إيران في الصراع ستدفن إسرائيل في البحر المتوسط"، فضلًا عن تصريح مساعد قائد الحرس الثوري الإيراني العميد محمد رضا نقدي، الذي قال إن الولايات المتحدة "ستُذل في هذه الحرب الراهنة"، مشيرًا إلى أن المصالح الأميركية معرضة إلى غضب الشعوب في كافة أرجاء العالم. والأمر الآخر الذي قد يغري النظام الإيراني بدفع أذرعه لتوسيع الصراع هو تنامي قناعة النظام الإيراني بأن هناك تحولات في مواقف الرأي العام العالمي والأميركي ضد إسرائيل والإدارة الأميركية الحالية، وهي قناعة قد يرى فيها الحرس الثوري بيئة مناسبة لاتخاذ قرار خوض صراع واسع ضد إسرائيل دون خشية كبيرة من ردة فعل أميركية في ظل الكوابح التقليدية القائمة لقرار البيت الأبيض، سواء ماهو تقليدي منها (حرص إدارة بايدن على تفادي خوض صراعات عسكرية) أو ماهو طارىء بفعل تحولات الداخل الأميركي ومواقف القوى الكبرى مما يحدث في الشرق الأوسط.
ثمة نقطة أخرى مهمة أن التأثير الدولي والاقليمي على القرار الإسرائيلي فيما يخص مستقبل قطاع غزة سيكون مرهونًا بحصاد هذه الحرب، وبالتالي من الصعب ترسيم حدود للأدوار في وقت لم تزل فيه المعطيات التي سترسم الأدوار غائبة أو غير نهائية على الأقل، فالشواهد تقول أن إسرائيل قد فرضت رأيها بخصوص رفض أي وقف لإطلاق النار، ولم تنصع لأي ضغوط في هذا الشأن، واستطاعت توجيه مسار الحرب وفق ما تقرره، وبالتالي يمكن القول بأنها ستكرر السيناريو ذاته في حال نجحت في فرض كلمتها بشكل نهائي على القطاع، وبالتالي فهي من ستقرر من يدير ماذا؟ وطبيعة وحدود أدوار كل طرف، وهنا يصعب القبول بفكرة قبولها تسليم القطاع إلى السلطة الفلسطينية على الأقل في المراحل الأولى عقب انتهاء الحرب.
في تفسير الموقف الإسرائيلي المتصاعد يمكن الإشارة إلى أن شرط "حماس" في بدايات الحرب كان الافراج عن الرهائن جميعًا مقابل تفريغ/ تبييض السجون الإسرائيلية من المعتقلين الفلسطينيين، وقد تراجع هذا الشرط وتوقف حاليًا عند امكانية تسليم الرهائن مقابل وقف إطلاق النار، وهذا انعكاس للضغوط العسكرية الشديدة التي تمارسها إسرائيل، ورغبة "حماس" في التقاط الانفاس واعادة التفكير وانتشار قواتها وعتادها، وإدراكها أن استمرار الحرب بالوتيرة الحالية سينهي بالفعل على شبكة الأنفاق، التي تمثل شريان حياة الحركة وأنشطتها وقادتها.
قناعتي الشخصية أن إسرائيل لن تقبل بأي سيناريو من السيناريوهات التي يجري تداولها حاليًا بين الأطراف الدولية والإقليمية، بما في ذلك الأميركية منها، حيث ستكون جميعها بمنزلة سيناريوهات استرشادية لا أكثر ولا أقل، مع ثقة تامة في الحصول على الدعم الأميركي الكامل لما ستقرره إسرائيل في هذا الشأن أيًا ماكان، وهو أمر يمنح إسرائيل هامش مناورة كبيرة يدفع للقول بتلاشي فكرة بقاء قطاع غزة تحت إدارة كاملة لأي طرف فلسطيني أو وجود أطراف عربية أخرى، بفرض قبول أي دولة عربية القيام بهذا الدور وهو أمر مستبعد بشكل كبير.
ماسبق يعني أن هناك معادلة جديدة للحدود المصرية مع إسرائيل، لأن سلطة المعابر غالبًا ما ستتغير في هذه الحالة بخروج "حماس" من المعادلة، وقد يغري ذلك إسرائيل بتكرار السيناريو نفسه مع الضفة الغربية وتقويض نفوذ السلطة الفلسطينية، وهو أمر يتوقف على مآلات ما يحدث في غزة والاستنتاجات التي ستتوصل إليها إسرائيل عسكريًا وسياسيًا في غرف سرية لمعالجة ما حدث في السابع من أكتوبر ضمان عدم تكراره.
مابعد غزة في جميع الأحوال لن يكون كما كان قبلها، ومن السابق لأوانه رسم صورة متوقعة للمشهد المستقبلي، والمشهد ميدانيًا شديد التعقيد وغير مسبوق بالمرة، لذلك فإن هناك أطراف إقليمية دولية عديدة تسعى لترجيح كفة كل طرف من طرفي الصراع لأن غزة يمكن أن تجيب على الكثير من التساؤلات وترسم ملامح الشرق الأوسط الجديد.