فى جِدة العمر، بدأ اهتمامي بكرة القدم كمعظم أقراني فى المدرسة الاعدادية، وانتميت ــ ولا أعرف لماذا ــ لمشجعي ناد بعينه، عشقت رموزه وأصبحت متعصباً صغيراً لهذا الفريق، أفرح لفوزه وأحزن لخسارته، وكبرت حتى أصبحت متعصباً كبيراً، لخسارته أحزن حتى الكآبة ولفوزه أفرح فرحاً متهوراً، وظلّ الحال على ما هو عليه حتى منتصف الثمانينيات تقريباً، حيث اجتاحت المحروسة موجات من الطائفية المقيتة غزت كل مناحي الحياة، ومنها بالطبع الرياضة، ومن هنا بدأ اهتمامي بالانحسار رويداً رويداً، عدا بعض الأحداث القومية الرياضية، وحتى تلك ذبلت متابعتها مع الوقت في ظل اهتمامات أخرى ومسؤوليات، لكن حنيني لكرة القدم ظل كامناً.
بعد التقاعد، بدأ اهتمامى بكرة القدم يعود مرة أخرى، لكن هذه المرة فى الدوريات الشهيرة وكأس العالم وما شابه، ومن هنا لفت نظري هذا اللاعب الشاب، وكنا في أوائل العقد الثاني من هذا القرن، تابعته فى كل الأندية التى لعب لها، ليس لمهارته فقط التي لا خلاف عليها، ولكن أثار اهتمامي بكثير من جوانب حياته، كيف لم ير أحد موهبته وكيف اكتشفها آخرون أغراب؟ كيف خرج من عمق ريف مصري يسيطر عليه أو على معظمه متطرفون محتفظاً بشخصية متوازنة إلى هذا الحد؟ كيف اندمج في مجتمعات تختلف كل الاختلاف عن بيئته الريفية المحافظة، ولا أقول الرجعية؟ كيف تطور وصار معشوقاً لملايين يتغنون باسمه؟ كيف طور شخصيته ومهاراته ولياقته بهذه الكيفية المبهرة؟ كيف لم تغيِّره الشهرة ولا الثروة؟
في رأيي الشخصي، إنَّ هذا الشاب بأخلاقه وتدينه البسيط الهادئ وإنسانيته أسدى خدمة لعقيدته أضعاف أضعاف ما يدعيه هؤلاء المهووسون المتطرفون الزاعقون الشاتمون معتنقو مذهب الكراهية والعداء للكون كله.
وفي رأيي أن نجاح هذا الشاب يعود إلى أسباب كثيرة، لكن أهمها هو القدرة الفذة على الاندماج في مجتمعات جديدة دون أن يفقد هويته، أي الاندماج وليس الذوبان. فالاندماج يعني احترام ثقافات المجتمعات، وفي نفس الوقت تحترم هذه المجتمعات ثقافات الأفراد، وهو ما يوفره المبدأ الأعلى المقدس في هذه المجتمعات، أي الحرية والتعدد والاختلاف، وهي العوامل الرئيسة التي ساهمت فى نهضة هذه المجتمعات. فهذا الشاب لم يذهب إلى هذه المجتمعات بثقافة الغازي الفاتح، بل بثقافة الباحث المتشبث بفرصة جاءت بعد عرق وجهد ومثابرة، وعندما رأيته يرتدي شارة القياده لأحد أعرق فرق المملكة وسط إنجليز أقحاح، عرفت أنه فاز في الامتحان الصعب الذى رسب فيه كل من سبقوه ولحقوه، فقد ذهب قبله كثيرون ــ ومنهم من كانوا أكثر موهبة ــ وعادوا فاشلين لا لشيئ إلا لأنهم لم يستطيعوا التكيف والاندماج، ولم يستطيعوا استيعاب ثقافة الاختلاف وثقافة العيش المشترك ضمن أجناس وألوان وعقائد ومذاهب. نعم، لم يستطيعوا، فقد شبوا في مجتمعات مصابة بالتوحد، ولا مكان للاختلاف لا في عقيدة ولا في مذهب ولا في ملبس ولا أي من مظاهر الاختلاف.
وبينما ننقر حروف هذا الطرح فى أمسية السبت الماضي، وبعد أن أحرز هدفاً بمهارته المعهودة، صدحت الجماهير فى استاد المدينة العريقة بأغنيتها المفضلة تهز القلوب هزا مووووووووووووووووو صلاح.
التعليقات