تقديم*:
يطيبُ لي أن ألتقيَكُم، وأتبادلَ الرأيَ معكم في هذه الأصبوحة، وأشكر جامعة الوصل ومؤسسة سلطان العويس على دعوتهما الكريمة للحديث عن (السردية العربية)، فقد وافقتْ رغبةً لا أتستّر عليها، وغايةً لا أخفيها، ومن بين ما أرومُ مبادلتُكم الرأيَ حولَه، مفهومُ (السردية) الذي لازمني منذ أكثر من ثلاثين سنة في حوار لم ينقطع من الاثراء والتعديل، فالتفكيرُ في الظاهرة السردية غيرُ وصفها، ووصفها غيرُ تحليلها، وتحليلها غيرُ تأويلها.

وقد سعيتُ، ولست واثقاً من نجاحي، إلى اقتراح صلة أو صلات بين تلك المداخل بهدف تفعيلها كلها في معاينة الظاهرة السردية، وغايتي استكناه هوية (السردية العربية). بوجيز القول: جئتكم للحديث عن فهم عربيّ للسرد والوقوف على مفهوم تأسيسي من مفاهيمه، لو أخذنا به لانتفع منه السرد العربي القديم والحديث انتفاعاً كبيراً. ولجنبنا الخوض فيما لا فائدة منه من المفاهيم المستعارة من سرود لا تفي بحاجاته، إنما تفي بحاجات سرود تلك الأمم.

1
اقترنت دلالةُ السرد، في اللغة العربيّة، بالنسج، والسبك، والصوغ، والبراعة في إيراد الأخبار، وفي تركيبها، فذلك هو الحقل الدلالي للفعل سرد ومشتقاتهِ في الثقافة العربية. وتردّدت تلك المعاني مجتمعة أو متفرّقة في معاجم اللغة، وفي مصادر الأدب العربيّ.

وكرّس القرآن الكريم ذلك المعنى في قوله تعالى "أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ–11 سبأ". أي احكم، يا داوود، نسج الدروع، وكن متقنًا لصناعتها، فاجعلها تامّة الجودة.

قال لبيد بن ربيعة العامري:
وما نسجتْ أسرادُ داودَ وابنهِ مُضاعفةً من نسجهِ إذْ يقاتلُ

وقال المتنبّي:
ما مُقامي بِأَرضِ نَخلَةَ إِلّا كَمُقامِ المَسيحِ بَينَ اليَهودِ

مَفرَشي صَهوَةُ الحِصانِ وَلَكِنّ قَميصي مَسرودَةٌ مِن حَديدِ

السرد في سياق الآداب العربية هو البراعة في تدبير سياقُ الكلامِ، وتنظيم نسقهِ، وحبك أطرافه.

2
ومن المعنى اللغوي جرى اشتقاق الدلالة الاصطلاحيّة للسرد الذي يحيل على الإجادة في صوغ الكلام، ومراعاة الدقّة في بنائه، والإبلاغ عن القصد منه، فالسَّردُ: تَقدِمةُ شيء إلى شيء في الحديث، فيؤتى به مسبوكا لا خلل فيه، والسارد هو مَنْ يجيدُ صنعةَ الحديث، ويكون ماهرا في تنطيم أجزائه.

إذًا، لا يراد بالسرد الإتيانُ بالأخبار على أيّ وجهٍ كان، بل إيرادُها بتركيب سليم، بليغ يُفصح عن مقصودها دونما لُبس في المبنى والمعنى. فلا تكون ركيكةً في أسلوبها، ولا مبهمةً في مراميها. ذلك هو، بالإجمال، المفهوم الذي أخذتُ به في تحليلي للسّرديّة العربيّة.

ولم يغبْ عنّي مفهومُ السّرد حسبما أوردته معاجم الأدب، غيرَ أنّني وجدته لا يَفي بمقصودي الّذي ابتغيتُه، فأردفتُه بالدّلالة السّياقيّة الّتي انتهى إليها الإرثُ السّرديُّ العربي الّذي هو مثارُ حفاوتي؛ فالسّياق الثّقافي وسّع من دلالةِ مفهومِ السّرد، حيث أضاف إلى دلالته الذّاتيّة الدّلالةَ الحافّةَ؛ وفيه تمدّد المفهومُ على بساط التّاريخ الثّقافي طويلَ المدى، فصار المقصود به: الإحكامُ في السّبك، والإتقانُ في النّسج؛ فقوام السّرديّة العربيّة مادّةٌ مجازيّةٌ صاغها السّردُ بأشكال وأنواع، وقد ظهرت، أوّلًا، أخبارًا شفويّة متناثرة، ثم أضحت، ثانيًا، مرويّاتٍ محبوكة، واستوت، أخيرًا، أنواعًا لها هويّات في إطار جنس السّرد.

وصار الأخذُ بالمفهوم الواسع للسرد الذي أخذتُ به لازمًا في أيّ بحث يروم تحليل الظّاهرة السردية، وبذلك تحاشيتُ، بقدر ما تمكّنتُ، السّقوطَ في فخّ التّعريف الضّيّق للسّرد، والّذي ينزع عن الظّاهرة السّرديّة روحَها، وتجرّأتُ على الخوض في ثنايا الإرث السّردي، وهو إرثٌ أغنى المفهوم بدلالات ثريّة، فتبلورت لي رؤيةٌ ذهبتْ إلى أنّ الانشغالَ بتضييق المفاهيم، واختيارَ ما يوافق هوى الباحث، سوف يُرغمهُ على الابتعادِ خطوةً، وربّما خطواتٍ، عن الظّاهرة السّرديّة، ويبطلُ الغايةَ المرادةَ من بحثه فيها.

وقد راعني عدمُ الاهتمام بإثراءِ مفهومٍ للسّرد مستخلص من الظّاهرة نفسها، والاكتفاء بتعاريف مدرسيّة منتزعة من المعاجم الفرنسيّة والإنجليزيّة؛ فكأنّ براعةَ الباحثِ تتجلّى في الإتباع، وليس في الإبداع، وفي الاقتداء لا في الإنشاء.

لم تنبثقْالسردية عن فراغ، إنّما ترعرعت في سياق عميق الجذور. وخلال رحلتها المديدة تعرّضَ مفهومُ السّرد فيها إلى التّهذيب، والإصلاح، والتّرميم، واكتسب ثراءً بحكم الزمن الطويل، وبات من غير الممكن مطابقةُ دلالتهِ الموروثةِ مطابقة تامة مع الدّلالةِ المعجميّة المستعارة من سرود لا توافقه كلَّ الموافقة، لا في سياق نشأته، ولا في أنواعه، ولا فِي وظائفه. إذ أنّ المطابقةَ قد تمحو الاختلافَ، وتزيل الفروقَ، وربّما تسهّلُ إصدار حكم سريع، ولكنّها لا تفلحُ في الإحاطةِ بالظّاهرة السّرديّة على اختلاف أنواعه.

3
ثم ارتبط مفهوم السرد بصوغ الخطاب السردي؛شفويا كان أم مكتوبا، صوغا غايته التأثير النفسي والإقناع الخيالي. وذلك الصوغ هو موضوع "السرديّة" التي اختصّت بالبحث في مكوّنات الخطاب السردي المتكوّن من: الراوي، والمرويّ، والمرويّ له، والانتقالُ إلى دراسة أسلوب ذلك الخطاب، وتركيبه، ودلالته. واقترحت مصطلح "السردية" تعبيرا عن المبحث الذي يعنى بكل ذلك، لأن المصدر الصناعي في اللغة العربية يفيدُ الوصفَ والتسميةَ معا، فإذا قصدنا وصفَ مظاهر التعبير؛ فالسرديةُ تسعفنا في الوصف، وإذا قصدنا الإشارةَ للمعرفة التي بها نستعينُ لدراسة ذلك التعبير؛ تفيدنا السرديةُ في تحديدِ طبيعة تلك المعرفة.

ولا يصحّ النظر إلى السردية على أنها نموذجٌ جاهز يُفرض على النصوص الادبية بالإكراه، إنما هي إطار نظريّ مرتهن بقدرات الناقد، ورؤيته، ومنهجه، وثقافته، وأهدافه، ووعيه، من جهة، وبالمفاهيم السردية، والأعراف النظرية، وبالمعطيات النصية، من جهة ثانية، وبتلك المقومات الأساسية، أي وعي الناقد، والقواعد النظرية، ومعطيات النصوص، يمكن تحليلُ النصوص السردية وتأويلُها.

4
إذًا، أردتُ بـــ"السّرديّة": المدخلُ الّذي يستعينُ به الباحثُ لاستخلاص طبيعة النصوص، وفيه تتولّى الممارسةُ النّقديّةُ استخلاصَ مجملِ صفات السّرد، وتعرّف بهويّته، في آن واحد وغايتي سبكُ مفهوم لا ينفصل عن المادّة السّرديّة، فيخضعُها لقواعدَ تجريديّةٍ، ثمّ يتعالى عليها، بل يصدرُ عنها، ويتكيّفُ معها؛ فتحوّلاتُه مقيّدةٌ بتحوّلاتها، ولا يجوزُ تجريدُ نموذجٍ افتراضي عابرٍ للزّمان والمكان، واللّغاتِ والثّقافات، والأجناسٍ والأنواع، وإرغامِ المادّةِ السّرديّة على الامتثال له، فذلك لاهوتٌ سردي تأبى المادّةُ السّرديّةُ قبولهُ. وبذلك فلا ينبعُ ثراءُ "السّرديّة" من كمالها، بل من نقصها، كون الظّاهرةِ السّرديّة في ترحال دائم، ولا سبيلَ لأسْرها في حقبة تاريخيّة، أو في لغة معيّنة.

وينبغي التّفريقُ بين السّردِ بوصفه وسيلةَ تركيبِ الأخبار والمرويّات والنّصوص، والسّرديّةِ، الّتي هي استخلاصُ المعاييرِ العامّةِ للقول السّردي، والوعي بها، والتّفكير فيها. وإذ يقتصر السّردُ على الأخذ بالأعراف الموروثة في تركيب الأخبار، والمرويّات، والنّصوص، فإنّ السّرديّة هي الإدراك بمجمل ذلك في إطار ثقافة قوميّة كبرى.

يرتبط السّردُ بكيفيّات الأقوال الحكائيّة المرويّةِ أو المدوّنة، أمّا السّرديّةُ فهي الوعي بها، وعلى ذلك، فالسّرديّةُ إدراكُ سيرورة الأفعال السّرديّة، ولن يتّخذ الإدراك صيغة معرفة نظريّة ثابتة بأحوال السّرد كونه في حال تغيير دائم. تنتهي المعرفةُ النّظريّةبالسّرد إلى تقنينه في قواعدَ ثابتةً تخالف تحوّلاتهِ المستمرّةْ، أما السّرديّةُ فتُطوّر وعيا به يستبطن تلك التّحوّلات، وتنفتح عليها، فلا تحبسه بغاية الوصف، ولا تقيّده كيْ لَا يشذَّ عن قواعدها، إنّما تتفاعل معه، وتواكب تحوّلاتهِ.

وإذ أنفي عن السّرد وظيفة حمل المعارف، فأخصّهُ بوظيفة حفز التّفكير في أحوال العالم، وبذلك أفرّق بين معرفة نظريّة بأحوال السّرد، وبين وعي بممارساته، فالسّرديّةُ العربيّة هي الوعي بممارسات السّرد العربي كما تجلّى في الأنواع القائمة بفعل الحفاظ على أعراف النّوع أو الّتي انقرضت بتأثير من تفكّك تلك الأعراف. فما دامت الظاهرة السردية في نموّ مطّرد، فالوعي بها، يواكب اطّرادها.

وما كان من أهدافي استجلابُ نظريّة تدّعي العلم بالسرد، وإثباتِ فرضيّاتها، ولا الادّعاءُ بصوغ نظريّة تقطّعُ أوصال النّصوص، وتخفقُ في إعادة ربطها، بل اجتهدتُ في اقتراح ما رأيتُه نافعًا للسّرديّة العربيّة في الوصف، والتّحليل، والتّأويل.

5
منذ وقت مبكّر لازمني حذرٌ من الامتثال لحبس الظّاهرة السّرديّة في أُُطر ضيّقة، وقيود خانقة، بدواعٍ من مراعاة شروط العلوم النّظريّة في تحليلها، وهو أمر لم أجده فاعلًا في الدّرس النّقدي، فغايتي الوقوف على الظاهرة السّرديّة بتقليب وجوهها، إذ أنّها، في جوهرها، ظاهرةٌ ثقافيّة تخييليّة قامت بتمثيل أحوال المجتمعات عبر العصور، ولا يصحّ تجريدُها من وظيفتها، وعزلُها عن سياقاتها. ولكن، حذار من إبعادِها إلى الوراء، وإحلالِ الواقع محلّها، والنّظرِ إليها على أنها محاكاةٌ له، أو انتساخٌ لما فيه من أحداث.

وما دامت صلتي بالسّرد العربي قد انتظمت على وفق مقتضيات ذلك الوصف، فكيف كانت نظرتي للسّرد، ولوظيفته؟ الجواب عن ذلك يلقي الضّوءَ على أسباب انشقاقي عن طائفة السّرديّين العرب، الآخذينَ بمعايير السّرديّات المستعارة، بقَضِّها وقَضِيضها، من الثّقافتيْن الفرنسيّة والأنجلوسكسونيّة، والنّظر إليها بوصفها علمًا عابرًا للأنواع السّرديّة، وسياق الثّقافات القوميّة، وينبغي إنزالُها على النّصوص عُنوةً بصرف النّظر عن أنواعها، والثّقافات الحاملة لها.

وبخلاف ذلك، فقد رأيتُ أنّ الظّاهرةَ السّرديّة برمّتها فعلٌ اجتماعيّ ما خلا الأفعال الّتي تقوم بها الشّخصيّات المتخيّلة؛ حيث أنّ السّرد يفارق الواقع، ولكن لا ينقطع عنه. والأحداث سواءٌ أَحصلت في الواقع أم كانت قابلةً للوقوع في السّرد، فهي متآزرةٌ في سيرورة حدوثها، أي: في تطوّرها، وامتدادها، وتشابكها، وتداخلها، وانقطاعها عن بعضها أو اتّصالها ضمن إطار البنيات السّرديّة النّاتجة عن صهرها.

وكونُ جمهرةٍ منها يقومُ بها الإنسانُ في الواقع وأخرى تقوم بها شخصيّات العالم المتخيّل، لا يُجرّدها من التّعاضد، والتّفاعل؛ فليس لأحد إنكارُ الوظيفةِ التّمثيليّة للسّرد، إذ هي وظيفةٌ اجتماعيّة تردمُ الهوّةَ الفاصلة بين العالَميْن، وتمدُّ جسرًا رابطًا في ما بينهما.

ومن نافلة القول، إنه لا فائدة من الإيمان بوثوقيّة النّصوص السّرديّة، فهي تخيّلات منزلقة لا تَعْرِض يقينًا، لأنّها تستبطن الظّواهر الاجتماعيّة، وتُعيد سبكَها بشروط الخطاب السّرديّ، الّذي يُقارب موضوعاتِه بتراكيبَ، وأساليبَ، لا يقصد بها إنتاجُ حقائقَ مؤكَّدةٍ، بل أطيافٍ متداخلة تُلمِّح إلى تلك الظّواهر مجازًا، ولا تصرّح بها بالأدلّة القاطعة.

6
أنجزت "السردية" مهمّة جليلة في النقد العربي الحديث، إذ خلخلت ركائزه التقليدية، وأبطلت مسلّماته من شروح وتعليقات وأحكام، وخلّصته من الانشغال بالحيثيات الخارجية الخانقة للنصوص، ودفعت برؤية جديدة لعلاقة النقد بالأدب، فأزاحت الانطباعات الذاتيّة إلى الوراء، وزجّت بمفاهيم جديدة إلى صلب الممارسة النقديّة، وقدّمت أمثلة تحليليّة جيّدة ينبغي أن ينظر إليها بعين التقدير.

وقد قوبلت الدراسات السردية بالترحاب والرفض معا، ومرّ وقت طويل قبل أن تتخطّى بعض الصعاب، وتنتزع شرعيّتها في الأوساط الثقافيّة والأكاديميّة. وإذا عدنا إلى تاريخ الدراسات السردية خلال العقود الأربعة الأخيرة، لوجدنا انشطارا في المواقف حولها، فمن جهة أولى، نقلت النقدَ من مستوى الانطباعات الشخصيّة، والتعليقات الخارجيّة، والأحكام الجاهزة، إلى مستوى تحليل الأبنية، والأساليب، والدلالات، ثم تركيب النتائج في ضوء تصنيف دقيق لمكوّنات الخطاب السردي، وبذلك تكون قدّمت قراءة مغايرة للمادة السرديّة، إذ أحكمتْ موضوعَها، وحدّدت أهدافها، وتوغّلت في عمق النصوص.

وعلى الرغم من ذلك حامت شكوك كثيرة حول قدرة تلك الدراسات على تحقيق وعودها النقدية، فكثير منها وقع أسير الإبهام، والغموض، والتعجّل، والتلفيق، والاختزال، والتطبيق المدرسيّ للتحليلات الجاهزة على النصوص السردية، دون الأخذ في الحسبان السياقات المتفاوتة فيما بينها، والتباين في استخدام المفاهيم، ممّا بذرَ شكًّا في القيمة النقديّة والمعرفيّة لتلك الدراسات.

وحالة الاضطراب التي رافقت دخول الدراسات السردية إلى النقد العربيّ الحديث أمر متوقّع في ثقافة تموج بالمتناقضات، ولم تفلح بعدُ في تطوير حوار عميق بين مواردها المتعدّدة. وكلّ ذلك من المقدّمات اللازمة لتكييف المعارف الإنسانيّة، وإعادة إنتاجها بما يفيد الأدب العربيّ، ويقود لاحقا إلى ابتكار أفكار جديدة

7
وأختم باستخلاص الملاحظات الآتية:

أولاً: على الرغم مما قطعته الدرسات النقدية من شوط في دراسة الأدب، فيتعذّر ضبط صلة الناقد بالنص، لأن العناصر المكونة لظاهرة الأدب، بشكل عام، هي: المؤلّفُ ومرجعياتُه الثقافية، والنصُ وسماتهُ الفنية، والمتلقّي وذخيرتهُ المعرفيةِ والذوقية، وهذه العناصر في حراك دائم، وتتغير مواقعها طبقا للمؤثرات الثقافية.

ويصعب تقديم وصف نهائي للعلاقات يرجّح أهمية هذا أو ذاك من عناصر الظاهرة الأدبية، والأصعب من ذلك الحكم النهائي على أيّ من القراءات هي الصائبة، فالأولى تضفي على السياق قيمة بما يجعل الأدب علامة دالة على أهمية الحاضنة الاجتماعية له، فقيمته في كونه يحيل على الخلفية التاريخية الخاصة بعصره وبمؤلّفه، والقراءةُ الثانية تنصرف إلى جمالياته الداخلية، ورسم مظاهره الأدبية، من ناحية الأسلوب، والبناء، والدلالة، والقراءةُ الثالثة تسعى للتوفيق بين مضمرات النص ومزاياه الكامنة، واستعدادات المتلقّي في قبوله في ضوء تجاربه ومخبراته ومعارف عصره بالتركيز على التفاعل بين الاثنين.

ولن ينتهي الخلاف حول ضروب القراءة ما دامت بعضُ نظريات النقد تأخذ بمفهوم حكم القيمة، والتفاضل، والتراتب، وهو خلاف رافق كلّ نشاط نقدي نظري.

ثانياً: يصحّ القولُ بأنّ نظريات النقد صاغت تراثا عظيما من التحليلات، والكشوفات، والفرضيات، والتوصيفات، والنتائج، وهي ثمرة من ثمار الجهد الفكري الذي انتهى إليه نقاد ومفكّرون انخرطوا في صلب العملية النقدية، وأقاموا هذا الصرح الذي يمثل إحدى انجازات العقل الثقافي في حقل العلوم الانسانية، ولا غنى لقارئ عنه في ربط صلته بالأدب، فبه نجح النقد في تمهيد الدروب للدخول إلى عالم التخيل الأدبي، وهو عالم مواز للعالم المرجعي. غير أنّ اكتشافه تعسّر، وتأخر، فقد مضى الإنسان باكتشاف العالم المرجعي لاعتقاده بأنه أكثر نفعا، فيما ينطوي العالم الافتراضي الذي يبتكره الأدب على فوائد كثيرة غايتها إثراء النفس، والخيال، والمشاعر، والأفكار، وشعور الإنسان بذاته وبهويته، ووسائله لذلك هي الرموز، والعلامات، والمجازات، وتُدرك منافعُها بالتحليل والتأويل، وشعور القارئ بالمتعة، والفائدة.

ثالثاً: حذرت كثير الدراسات الحديثة من اغفال أهمية الدراسات المخيالية، فاستبعادها يلحق ضررا بالتاريخ، والأدب، والأديان، والنظم الإجتماعية والسياسية. ولعلّ إحدى مظاهر الاحتجاج على فكرة الحداثة هو أنها جعلت من العقل فيصلا في القطع بأهمية الأشياء، وأهملت دور المخيال، فلم تأخذ في الحسبان المستويات غير المرئية للعلاقات الانسانية، وللآداب، وللأديان، وللتواريخ؛ ذلك أن فكرة المباشرة التي أخذت بها الحداثة العقلانية أبعدت الاهتمام بالإيحاءات، والتلميحات، وظلال المعاني، ما أدى إلى طمس أهمية المتخيّلات، ولعل السرد هو الكفيل بإعادة الاعتبار للبطانة الخفية من المشاعر الإنسانية.

* نص المحاضرة التي ألقاها الدكتور عبدالله إبراهيم بمناسبة فوزه بجائزة سلطان العويس الثقافية في حقل النقد والدراسات الأدبية 2022 – 2023