رغم انشغال العالم بتداعيات الحرب الدائرة في غزة بين إسرائيل وحركة "حماس" الإرهابية، فإن تزايد احتمالات وصول الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مجدداً للسلطة وفق جميع المؤشرات، تشغل بال الدوائر السياسية على الأخص خارج الولايات المتحدة، حيث تقترب هذه العودة غير المسبوقة لرئيس أميركي للسلطة، في ولاية رئاسية ثانية غير متصلة، من واقع نتائج استطلاعات الرأي، وبدعم قوي من أداء الرئيس الحالي جو بايدن، المرشح المحتمل للحزب الديمقراطي لخوض انتخابات الرئاسة المقررة نهاية العام الجاري.
في أحد استطلاعات الرأي التي أجريت مؤجراً، جاء عدد الأميركيين الذي يثقون في ترامب لإدارة الاقتصاد الأميركي أكبر بكثير من الرئيس بايدن، على الرغم من مرور أشهر من النمو القوي للاقتصاد الأميركي وكشف الاستطلاع الذي أجرته صحيفة "فايننشال تايمز" وكلية "روس لإدارة الأعمال بجامعة ميشيغان في بداية شباط (فبراير) الجاري، أن 42 بالمئة من الأميركيين يرون أن ترامب سيكون أفضل من يدير الاقتصاد الأميركي بينما اختار 31 بالمئة فقط الرئيس بايدن، وقال 21 بالمئة إنهم لا يثقون بأي منهما.
لم تكن هذه النتائج هي الوحيدة التي تكشف صعوبة موقف بايدن، فهناك مؤشرات أخرى مقلقة للديمقراطيين، منها تقرير قضائي حول تعامل بايدن مع الوثائق السرية وصف الرئيس بأنه "رجل مسن حسن النية ذو ذاكرة ضعيفة"، وهو مايثير مخاوف شريحة عريضة من الناخبين بشان عمره وقدراته العقلية والذهنية، لاسيما في ظل توالي أخطاء بايدن العلنية وسقطاته في أمور استراتيجية بالغة الأهمية لبلاده، حتى أن منافسه الرئيس السابق ترامب اعتبر أنه "لا يدرك حتى أنه لا يزال حيا".
سياسياً، يعتقد 35 بالمئة من الأميركيين أن الرئيس السابق ومرشح الرئاسة المحتمل ترامب كان سيتعامل مع أزمة أوكرانيا والنزاع بين إسرائيل وحركة حماس الإرهابية بصورة أفضل من الرئيس بايدن الذي حصل على 27 بالمئة بحسب استطلاع أجرته ABC News، كما أظهر استطلاع للشبكة نفسها أن 86 بالمئة من الأميركيين يعتقدون أن الرئيس بايدن أكبر سناً من أن يخدم في منصبه لولاية ثانية.
في ضوء ماسبق، تتهيئ الولايات المتحدة والعالم لعودة ترامب للسلطة مجدداً، ويتابع الجميع كل خطاباته وتصريحاته الإعلامية باعتبارها مواقف سياسية محتملة، وليست وعوداً انتخابية لأن ترامب ليس مرشحاً عادياً بل هو رئيس سابق، ويدرك البيئة الاستراتيجية التي يمارس فيها سيد البيت الأبيض مهام منصبه والظروف المحيطة بقراراته ومواقفه السياسية. لذا فإن تصريحات ترامب بشأن العلاقة مع حلف "الناتو" قد أثارت قلقاً واسعاً في الولايات المتحدة وخارجها، وتعامل أعضاء الحلف معها بجدية شديدة، ولاسيما أن موقف ترامب كانً لافتاً للغاية، حيث صرح بأن سيشجع روسيا على أن تفعل "ما تريده بحق الجحيم" لأي دولة عضو في حلف الأطلسي "لا تدفع ما يكفي لميزانية الحلف"، وقال ترامب إنه عندما سئل ـ خلال ولايته الرئاسية ـ عن موقف الحلف من الدول التي لم تسدد التزاماتها المالية، وهل تحظى بحماية الحلف في حال تعرضت لهجوم روسي، قال إن الحلف لن يحمي هذه الدول، وكان ذلك سبيلاً لإلزام الجميع بدفع حصصهم المالية.
وصف الرئيس بايدن هذه التصريحات بأنها "غبية ومخزية وخطيرة"، واعتبر البيت الأبيض أنها "مروعة وفاقدة للصواب"، وقال المتحدث إن "تشجيع الاعتداءات على أقرب حلفائنا.. أمر مروع ومضطرب"، فيما رأى رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال بأن تصريحات ترامب "متهورة وخارجة عن مبدأ التضامن داخل الحلف"، وحذر أمين عام الناتو ينس ستولتنبرغ من تصريحات ترامب، مشيراً إلى أنها "تقوض أمن" الحلف، وأكد ستولتنبرغ في بيانه أن "الحلف الأطلسي سيبقى مستعدا وقادرا على الدفاع عن كل الحلفاء"، مضيفا أن "أي هجوم على الحلف الأطلسي سيثير ردا موحدا وقويا"، ووصف المستشار الألماني أولاف شولتس تصريحات ترامب بأنها "غير مسؤولة وخطيرة"، وقال شولتس "إن التقليل من ضمان مساعدة دول حلف شمال الاطلسي غير مسؤول وخطير، ولا يخدم سوى مصالح روسيا"، بينما وصف رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال التصريحات بأنها "متهورة".
وما ضاعف قلق دول الحلف أن كيث كيلوغ الجنرال المتقاعد وكبير الموظفين في مجلس الأمن القومي للرئيس السابق، قال إن ترامب سيسعى لإجراء تغييرات في حلف الناتو إذا عاد الرئيس السابق إلى السلطة، قد تؤدي إلى فقدان بعض الدول الأعضاء الحماية من أي هجوم خارجي، وأضاف كيلوغ إنه إذا فاز ترامب فمن المرجح أن يقترح عقد اجتماع للحلف في حزيران (يونيو) 2025 لمناقشة المستقبل، حيث أفاد بأن الحلف قد يصبح بعد ذلك "حلفا متعدد المستويات"، حيث يتمتع بعض الأعضاء بحماية أكبر بناء على التزامهم بالمواد التأسيسية، وإنه يجب ألا تعتبر الحماية التي توفرها المادة الخامسة من المسلمات في حال غياب احترام المادة الثالثة في ميثاق الحلف، وهو ما يعني عزم ترامب إحداث تغيير جذري في سياسات الحلف ومبادئه، وقد ينتهي الأمر بالتكتل الأطلسي إلى التفكك في ظل احتمالات انسحاب العديد من الأعضاء في حال أصر ترامب على رؤيته.
بلاشك أن ردود الفعل هذه تعكس تعاطي الجميع مع المرشح الجمهوري المحتمل باعتباره رئيساً مرتقباً للولايات المتحدة، حتى أن نائبة رئيس البرلمان الأوروبي كاثرينا بارلي قد اعتبرت أن إنشاء مظلة نووية خاصة بالاتحاد الأوروبي محل المظلة الأميركية قد يصبح موضوعاً للمناقشة على مستوى الجيوش الأوروبية، مشيرة إلى أن الردع النووي لأوروبا حالياً في أيدي حلف "الناتو"، وأنه في ضوء تصريحات ترامب، لم يعد من الممكن الاعتماد على ذلك.
الشواهد تقول أن أوروبا لا تخشى فقط مسألة الالتزامات المالية، بل ماهو أكثر من ذلك وهو احتمالية انسحاب الولايات المتحدة نفسها من "الناتو" في عهد ترامب، وهي احتمالية ليست مستبعدة نظرياً على الأقل، فلطالما دعا الرئيس السابق في حملاته الانتخابية إلى انسحاب بلاده من الحلف، وهي فكرة تحظى بتأييد قاعدته الانتخابية.
المتغير الأساسي في هذا الأمر هو مدى التزام أعضاء الحلف بحصصهم من الانفاق الدفاعي، وهو أمر لا يزال موضع شك حيث أوفت 11 دولة فقط من أصل 31 عضو في الحلف بحصصها، وفي عام 2023 أنفقت الولايات المتحدة 743 مليار دولار، بينما كان مجمل انفاق الدول الأوروبية وكندا 356 مليار دولار في المجال الدفاعي، وهذا الفارق الهائل يغذي القلق والمخاوف الأطلسية لأن الحال لم يتغير كثيراً رغم حرب أوكرانيا، حيث وعدت ألمانيا ـ صاحب ثاني أكبر اقتصاد بين دول الحلف ـ هذا العام بالوفاء بالتزاماتها البالغة 2 بالمئة من مجمل الناتج المحلي للانفاق الدفاعي.
والأخطر من الجدل المادي أن ترامب يتشكك في مدى التزام بقية أعضاء الحلف بالدفاع عن الولايات المتحدة في حال تعرضها لهجوم، حيث قال مؤخراً "أكره أن أقول هذا عن حلف شمال الأطلسي، لكن إذا كنا بحاجة إلى مساعدتهم، في حال تعرضنا لهجوم، فلا أعتقد أنهم سيأتون للدفاع.. أعرفهم جيدا، ولا أعتقد أنهم سيساعدون".
الإشكالية أيضاً أن ما يمكن وصفه بفوبيا ترامب لم تقتصر على موقفه تجاه حلف "الناتو" بل باتت تشمل ملفات عدة للسياسة الخارجية الأميركية، حيث يزداد الاستقطاب بشأن ترامب ويتخذ طابعاً واسعاً على الصعيد الدولي، حتى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد اعتبر أن وجود بايدن في منصب الرئاسة الأميركية أفضل بالنسبة لروسيا، مقارنة بترامب، وهو مااعتبره ترامب "مجرد مجاملة"، وكل ذلك يعكس حجم الانشغال الدولي بعودة ترامب ومن ثم بمواقفه وسياساته المعروفة سلفاً في معظم ملفاتها.
التعليقات