لعل من أبرز تداعيات الحرب على غزة استعادة مفاهيم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وعودة الاعتبار إلى القضية الفلسطينية بوصفها المدخل الكامل لأمن واستقرار المنطقة والحفاظ على المصالح الأميركية، على قاعدة ألا بديل من إيجاد حل لها؛ هذه هي النتيجة السياسية لحرب غزة، ومنطلق الحديث عن اليوم التالي بالنسبة إلى جميع الفواعل الإقليمية والدولية.

من نتائج حرب غزة أن السلام العربي الإسرائيلي بات مرهوناً أيضاً بالوصول إلى تسوية سياسية، وإن يظل السؤال قائماً عن ماهية هذه التسوية وأركانها ومحدداتها وماهيتها. فالولايات المتحدة، وعلى مدار تاريخ الصراع، هي الطرف المتحكم بمفاتيح الحل السياسي، وهذا الحل لا يخرج عما تريده إسرائيل.

من أبرز نتائج الحرب أيضاً أنَّ هناك تغيرات طفيفة لحقت بالمواقف والرؤى السياسية أميركياً وأوروبياً، وقوامها أنَّ إسرائيل لن تستطيع من دون إيجاد حل للقضية تحقيق أمنها والبقاء بالقوة العسكرية وحدها واستئصال المقاومة الفلسطينية وفرض الحلول القسرية كالهجرة. لذلك، كان التفكير ثانية بكيفية إيجاد مقاربة تكون فيها الدولة هي الحل والمفتاح للتسوية السياسية، وتحقيق ما لم تحققه الحرب.

يرد هذا الأمر إلى التحولات في الرأي العام العام الأميركي، وانطلاق العديد من المسيرات التي تطالب بوقف الحرب والتنديد بالدعم العسكري الأميركي المطلق لإسرائيل، إلى درجة تحميلها نفس القدر من المسؤولية عن حرب الإبادة. ومن التغيرات أيضاً حكم محكمة العدل الدولية، وإن لم يكن ملزماً، لكن يمكن البناء عليه في المستقبل في مزيد من المحاكمات ونزع الصفة الأخلاقية ليس فقط عن إسرائيل، بل عن الديموقراطية الأميركيَّة كلها.

إقرأ أيضاً: ماذا ينتظر خامنئي؟

تزامنت هذه التغيرات مع سنة الانتخابات الأميركية، وهي الأكثر تنافسية وشراسة لأن المنافس المقابل للرئيس الحالي جو بايدن هو الرئيس السابق دونالد ترامب. وفى هذا السياق، كان لا بد من البحث عن إنجاز سياسي ولو سريع يسجل للرئيس بايدن، ويضمن له الفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة. وبدأ الحديث عما يعرف باليوم التالي أميركياً، أو بعقيدة بايدن السياسية للتسوية. وقبل تحليل هذه العقيدة وأركانها، لا بد من الإشارة إلى بعض الملاحظات أو المنطلقات والمسلمات في السياسة الأميركية. أولها المكون السياسي والأيدولوجي الذي يحكم رؤية بايدن، وهنا نذكر بمقولته "أنا صهيوني ولو لم أكن يهودياً"، و"لو لم توجد إسرائيل لخلقنا إسرائيل"؛ هذا الإلتزام هو الذي يفسر لنا موقفه غير المسبوق من الحرب، سواء سياسياً عن طريق تبني وجهة نظر إسرائيل بالدفاع عن النفس وبوصم حماس بالمنظمة الإرهابية، وباستخدام الفيتو في مجلس الأمن ضد وقف الحرب، أو عسكرياً بالدعم العسكري الكامل لإسرائيل وإرسال البوارج الحربية إلى شرق المتوسط وبالتصدي لقرار محكمة العدل الدولية، وبالدعم المالي، وآخره توفير 17 مليار دولار لتل أبيب.

إقرأ أيضاً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي توقع الموت... حقاً؟

المحدد الثاني في هذه العقيدة هو الالتزام بأمن وبقاء إسرائيل، وله الأولوية على أي أولويات وأهداف أميركية. فالأساس أمن إسرائيل أولاً. أمَّا المحدد الثالث فهو الحفاظ على المصالح الأميركية في المنطقة، إذ ما زالت منطقة الشرق الأوسط تشكل أحد أهم المناطق الاستراتيجية لأميركا، لوجود إسرائيل في قلبها. والمحدد الرابع توسيع عملية التطبيع والسلام العربي، وخصوصاً مع السعودية كدولة محورية وازنة، إذ بتطبيع العلاقات معها يغلق ملف الصراع العربي الإسرائيلي ويغلق ملف القضية الفلسطينية.

المحدد الخامس هو حرمان دول إقليمية كإيران من إستثمار القضية الفلسطينية واستمرار الصراع بما يخدم توسيع نفوذها والاعتراف بها وبمصالحها. والمحدد السادس والمباشر هو أن الحرب فشلت في تحقيق أهدافها السياسية، وأن إسرائيل لن تستطيع القضاء على حماس وقدرات المقاومة، في ظل التخوف من توسيع نطاق الحرب إقليمياً وتدخل قوى وفواعل أخرى فيها، مما يهدد كل مصالح أميركا الإقليمية للخطر.

إقرأ أيضاً: إيران وفشل نظرية ولاية الفقيه

في ضوء هذه الثوابت والمنطلقات، بدأ الحديث عن عقيدة بايدن السياسية والتي تقوم على ثلاثة أركان متداخلة، كل منها ينفى الآخر. المكون الأول هو إعادة التأكيد من جديد على حل الدولتين، وأن الدولة الفلسطينية هي المفتاح لأمن واستقرار المنطقة وتسوية الصراع من جذوره، وهذه الرؤية ليست جديدة، ولا تشكل تحولاً في السياسة الأميركية ولا في إدارة الرئيس بايدن، الذي لم يتوقف عن الإعلان عن حل الدولتين من دون تحويل هذه الرؤية إلى واقع وبرنامج عمل ملموس.

هذا الإعلان يحتاج إلى إعتراف كامل في مجلس الأمن وتحويل الدولة الفلسطينية من دولة مراقب إلى دولة كاملة العضوية تحت الاحتلال. ويتطلب مواقف وسياسات ملموسة تتمثل في إنهاء الاحتلال وتفكيك الاستيطان وحل عقدة القدس، وكلها تواجه تحديات تتمثل في الرفض المطلق لبنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية لفكرة الدولة الفلسطينية.

إقرأ أيضاً: إسرائيل وأميركا أفضل من إيران وحماس

ويبدو أن هذا الاعتراف لا يخرج عن الإطار الشكلي، لأنه يربط قيام الدولة بأمن إسرائيل، وهو ما يعني تفريغ الدولة من مفاهيم السيادة والقدرة العسكرية ومنح إسرائيل سيطرة كاملة على الحدود، ويعني أيضاً وضع حد لكل أشكال المقاومة الفلسطينية، وربطها أيضاً بحق العودة وإلغائه، ولعل هذا يفسر أحد أسباب وقف تمويل وكالة الأونروا، والبحث عن بديل لها.

هذا الربط يعني فقط دولة فلسطينية بروتوكولية، وتحويل السلطة من سلطة حكم ذاتي إلى سلطة دولة، ومكافأة لإسرائيل لإقناعها بالقبول بالدولة الشكلية عبر إتمام صفقة التطبيع مع السعودية، والتي ستفتح الأبواب الواسعة لتطبيع العلاقات مع بقية الدول العربية. ولا أحد يعلم متى قد يتم الإعلان الرسمي عن هذه الدولة، وعن طريق أي مفاوضات وأي ضمانات؛ إنها عقيدة أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة.