في السنوات الأخيرة، تصاعدت حدة الحوادث في أميركا الناتجة عن خطاب الكراهية، ولا سيما تلك المرتبطة بالدين بالدرجة الأولى. وتشير الدراسات والإحصائيات الى ارتفاع هائل في نسب الحوادث ذات الطابع الديني والعرقي، مثل العداء ضد السامية، ورهاب الإسلام "الإسلاموفوبيا"، وكذلك أيضاً استهداف المؤسسات الكاثوليكية.
تشير تلك الدراسات والإحصائيات الى أن اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، أسهم نسبياً في زيادة معدلات هذه الحوادث، لكنه عامل من ضمن مجموعة عوامل أخرى ترتبط جميعها بالسياسة العامة في الدولة التي لطالما روجت عبر وسائطها الإعلامية الواسعة الانتشار بأنها الدولة "المستنيرة".
تناقض "المستنيرة" و"الظلامية"
بالمقارنة، فإن روسيا الدولة التي يروج الإعلام الغربي والأميركي بأنها "ظلامية" وذات نزعة أوتوقراطية، لا يسجل فيها أي تأثير لخطاب الكراهية، لا ضد الغرب نفسه الذي يمعن في إحاطتها بالعقوبات "إحاطة السوار بالمعصم"، ولا ضد الأديان والأعراق يمكن إدراجها ضمن خانة "عداء السامية" أو "رُهاب الإسلام"، على الرغم من توتر العلاقات بين موسكو وتل أبيب، وتعرض موسكو الى هجوم إرهابي نفذه إسلاميون، وتبناه تنظيم "داعش – خراسان" الإرهابي.
لا بل على العكس، فإنَّ روسيا عملت من خلال القوانين والإجراءات الحكومية على ضمان حرية الدين والمعتقد لجميع المقيمين على أراضيها، مواطنين ومهاجرين. أبرزها قانون "حرية الضمير والجمعيات الدينية" الصادر عام 1997، والتعديلات التي أدخلت عليه في السنوات اللاحقة لتطويره. وينبع ذلك من نظرة موسكو الى التنوع العرقي والديني، وأنه يشكل عامل ثراء، وأساساً لتعزيز التبادل الثقافي مع دول وشعوب العالم.
ويعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الزعيم العالمي الوحيد تقريباً الذي يتبنى خطاباً محافظاً يُعلي من أولوية الأسرة والحريات الدينية والقيم التقليدية، في مواجهة قيم الحداثة الأميركية والغربية، التي تسهم في تدمير مفهوم الأسرة التقليدية، وتضع الأديان جمعيها، وخاصة الإسلام، موضع عداء. في خطاب تنصيبه رئيساً للجمهورية للمرة الخامسة في 7 أيار (مايو)، أكد الرئيس بوتين على أهمية "تربية الأجيال الجديدة التي ستحافظ على تقاليد كل الشعوب الروسية، انطلاقاً من أن روسيا دولة الحضارة الموحدة والثقافة المتعددة القوميات والأعراق".
أما الترجمة العملية لهذا الخطاب فنجدها متمثلة في محافظة موسكو على علاقتها الوثيقة بالطائفة اليهودية، رغم موقفها الداعم للقضية الفلسطينية. الأمر الذي ترجم بنسبة تصويت اليهود في "المقاطعة الذاتية اليهودية" ضمن الاتحاد الروسي لبوتين في الانتخابات الرئاسية، والتي بلغت 92 بالمئة. بالتوازي مع مساعيها لتوطيد علاقاتها مع المجتمعات الإسلامية عبر الكثير من الفعاليات. أبرزها المنتدى الاقتصادي "روسيا – العالم الإسلامي" والذي انعقدت نسخته الـ15 بمدينة "كازان" في جمهورية "تتارستان" الإسلامية ذات الاستقلال الذاتي، وحملت عنواناً معبراً وهو "الثقة والتعاون".
بالإضافة الى اعتماد البرلمان الروسي "الدوما" أواخر عام 2022 "قانون الصيرفة الإسلامية"، على أن يتم تجربة تطبيقه في العام الحالي، قبل تعميمه رسمياً، بما سيتيح لما يزيد عن 20 مليون مسلم، وأغلبيتهم ينتمون الى بيئات محافظة، من الوصول الى أدوات التمويل الإسلامي، وإجراء المعاملات المالية بـ"الحلال". فضلاً عن البطاقات المصرفية الإسلامية التي بدأت المصارف الروسية في إطلاقها، بهدف تسهيل تحويلات المهاجرين المسلمين الى ذويهم في جمهوريات القوقاز وآسيا الوسطى. كل هذه الإجراءات تعكس عمق الاحترام الذي تكنه موسكو للأديان بشكل عملي لا نظري فقط.
مذهب الـ"لاشيء"
وفق استطلاع واسع أجراه مركز "بيو" للدراسات "Pew Research Center" ونشره في أيلول (سبتمبر) 2022، فإن أعداداً كبيرة من الأميركيين تركوا المسيحية منذ التسعينيات من القرن الماضي، للانضمام الى الصفوف المتزايدة من الذين يصفون هويتهم الدينية بأنهم "ملحدون" أو "لا أدريّون" أو لا شيء "None" على وجه الخصوص. أما لماذا تطور الأمر في التسعينيات، فهذا مرده الى السياسة العامة التي اتبعتها الإدارة الأميركية، بعد حقبة الحرب الباردة، في الإفراط في ترويج العلمانية ومحاربة الأديان، وخصوصاً الإسلام، الذي اتخذته الإدارات الأميركية المتعاقبة عدواً حل مكان الشيوعية.
فضلاً عن ترويج وسائل الإعلام الأميركية للكثير من الأمور عن الكنائس ورجال الإكليروس، مثل الفساد، والفضائح الجنسية، وغياب الحوكمة والرقابة على أموال ومداخيل المؤسسات الدينية عكس المدنية، مما نجم عنه ارتفاع مستويات عدم الثقة في جميع المؤسسات والجماعات الدينية المنظمة، وذلك حسب الباحثة في علم الاجتماع تارا بولتون في حوار سابق مع صحيفة "واشنطن بوست". في إحصاء نشره موقع "غالوب" ربيع 2021، كشف أن 53 بالمئة من الأميركيين لم يعودوا يعدون أنفسهم أتباع كنيسة ما أو طائفة دينية منظمة.
تراجع الإيمان بالمسيحية بشكل مضطرد في أميركا تحول بفضل اليمين الأميركي المتشدد الى محور للصراع السياسي بين الجمهوريين والديموقراطيين، حيث يلاحظ أن تراجع الدين وسط الديموقراطيين أسرع بكثير منه عند الجمهوريين.
وقد سبق أن تناولت مجلة "ذي أتلانتيك" قضية الهوية الدينية في مقال بعنوان "لماذا ضيعت أميركا دينها؟" للكاتب ديريك تومبسون اعتبر فيه أن "الدين فقد هالة القداسة في العقود الثلاثة السابقة ليس بسبب العلمانية، بل لأن السياسة فعلت ذلك". وخلص تومبسون الى أن وسم "غير متدين" بات هوية أميركية مخصصة هدفها بالأساس "التفريق بين الأميركيين البيض العلمانيين والليبراليين، عن الأميركيين البيض المحافظين واليمينين والإنجيليين".
آثار الكراهية "المستنيرة"
كل ذلك نجم عنه ارتفاع في عدد الحوادث التي طالت الجماعات الدينية على اختلافها، من مسلمين ويهود ومسيحيين كاثوليك، حيث تعرضت مؤسساتهم ورموزهم الدينية لاعتداءات متكررة. كما أنهم كانوا على الدوام عرضة للتنمر والتحرش حتى داخل المؤسسات الرسمية والصروح الأكاديمية.
في دراسة حديثة نشرتها "رابطة مكافحة التشهير"، وهي منظمة للدفاع عن اليهود، كشفت عن تسجيل 8873 حادثة اعتداء وتخريب ومضايقة خلال عام 2023. وحسب المنظمة نفسها، فإن هذه الأرقام "تمثل زيادة بنسبة 140 بالمئة عن عام 2022، كما أنها أعلى مستوى منذ بدأت تتبع البيانات عام 1979". وأكدت المنظمة في دراستها أن ارتفاع عدد الحوادث "يرتبط جزئيا ًفقط بالحرب في غزة". وتتسق الدراسة مع بيانات نشرها مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي "FBI" عام 2021، والتي أشارت الى ارتفاع كبير في معدلات جرائم الكراهية، والتي تطال الأديان والأعراق أيضاً ولا سيما الأفارقة والآسيويين.
في المقلب الآخر، كشفت بيانات نشرها مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية "كير" في نيسان (أبريل) الماضي، أن الهجمات على المسلمين في أميركا والتمييز ضدهم بلغ مستويات قياسية عام 2023. وحسب البيانات، بلغ إجمالي الشكاوى 8061، بما يمثل زيادة بنسبة 56 بالمئة عن عام 2022. وهذا الرقم هو "الأعلى منذ بدأ المجلس رصد وتوثيق الانتهاكات ضد المسلمين الوعرب في أميركا منذ 30 عاماً" وفق "كير".
هذه الأجواء والمناخات المفعمة بالكراهية، أدت الى حادثة طعن أودت بحياة الطفل الأميركي من جذور فلسطينية وديع الفيومي في تشرين الأول (أكتوبر) 2023 بولاية إلينوي. وكذلك تعرض ثلاثة طلاب من أصول فلسطينية الى إطلاق نار في فيرمونت تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، واعتداء بالطعن على أميركي من أصل فلسطيني في شباط (فبراير) الماضي. والمستقبل مفتوح على احتمالات سوداوية في هذا الخصوص، على النقيض من الارتياح الذي يبديه رجال الدين المسلمين واليهود في روسيا.
التعليقات