أزمة نظرية الإمامة عند الشيعة في العراق لا تتعلق بصلاح الأئمة من أهل البيت النبوي، لا سيَّما أنَّ غالبية المسلمين، بمن فيهم أهل السنّة والجماعة، يعترفون برمزية الإمام علي ومكانته في الإسلام. هذا الاتفاق ينبع من النصوص القرآنية التي نزلت فيه ومنزلته في التراث الإسلامي.

هناك تياران متضادان يشذان عن هذا المعنى:

الأول يبالغ في كره الإمام علي ويعاديه، مثل الخوارج الذين قتلوه وفقاً للتراث الإسلامي، والذين بلغ بهم العداء أن كفّروه واستباحوا دمه.

التيار الآخر يبالغ في محبته وتعظيمه حتى ألهّوه وصنعوا بشأنه قصصاً إعجازية وخرافية تفرغه من بشريته وتميزه، وتجعل منه كائناً خارقاً.

يقول أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ المُطَّلِبِيّ القُرَشِيّ (150 هـ- 204 هـ / 767م - 820م) عن الإمام علي: "ماذا أقول في رجل، أسرّ أولياؤه مناقبه خوفاً، وكتمها أعداؤه حنقاً، ومع ذلك شاع منها ما ملأ الخافقين".

وما ينطبق على الإمام علي، ينطبق على بقيت أهل البيت النبوي أيضاً، بما في ذلك السيدة فاطمة الزهراء والحسن والحسين الذين نزلت بحقهم اية التطهير في القرآن الكريم.

ويمتد هذا التبجيل ليشمل الذرية النبوية المعتمدة في النسخة الشيعية، مثل الأئمة زين العابدين، الباقر، الصادق، الكاظم، الرضا، الجواد،الهادي، والعسكري. جميع هذه السلالة النبوية تحظى بمكانة جليلة ومعظمة بين المسلمين في إطار الإسلام العام.

الإمامة بمعناها العقائدي عند الشيعة الإمامية الإثني عشرية لا تتعارض في جوهرها مع عموم المسلمين، لأن ما ورد في تراث المسلمين من حديث أو رواية عن أهل البيت، صالح للتشريع والاحتجاج بين المسلمين. هذا المقدار معمول به في جميع المذاهب الإسلامية، وكتب التفسير والحديث، والفقه مليئة بأحاديث أئمة أهل البيت من دون استثناء.

لم ينفصل التراث الإسلامي إلى مذاهب إلا في مرحلة الاجتهاد والفقهاء. أما التراث الإسلامي في عصر المحدثين، فقد كان واحداً يستنبط منه جميع المسلمين من دون مذاهب بالمعنى الحالي.

نشأت المذاهب وتطورت في مرحلة متأخرة، مطلع القرن الثالث الهجري، وكانت في بداياتها مدارس، مثل مدرسة الفقهاء والمحدثين في الفقه، والأشاعرة والمعتزلة في العقيدة والكلام والتفسير. لم يكن هناك شيعة وسنّة بالمعنى المذهبي الحديث في تلك المرحلة الزمنية.

إذن، أين تكمن المشكلة؟

بتصوري، أزمة الشيعة لا تختلف كثيراً عن أزمة السنّة. المشكلة تكمن في تحويل الخلافة والإمامة إلى نموذج حكم سياسي مقدس. جميع المحاولات السنّية للعودة إلى الخلافة الإسلامية انتهت بكوارث ومزقت المسلمين. هذه المحاولات تتعارض شكلاً ومضموناً مع الدولة الحديثة التي ينتمي إليها المسلمون السنّة.

أزمة الشيعة في تفسير الإمامة كنظرية حكم وما يترتب على ذلك من تفسيرات للتراث الإسلامي على أساس عقائدي، تخلق حروباً دينية مفتوحة إلى يوم القيامة. توجب على الإنسان المعاصر أن يحدد موقفه العقائدي تجاه أحداث التاريخ الديني ويعكسها على الحياة العصرية.

عقيدة الولاء والبراء إذا وضعت في سياق الأيديولوجيات الدينية المذهبية الطامحة إلى السلطة تحت شعار حاكمية الشريعة الإسلامية، توفر بيئة خصبة للتعصب الديني والتطرف العنيف والإرهاب. هذه الاتجاهات تهدد الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، لأنها لا تنتمي للحدود السياسية للدولة الحديثة التي يعتمد عليها النظام العالمي والشرعية الدولية.

هذه الاتجاهات كانت موجودة في المسيحية واليهودية وغيرها من الجماعات في القرون الوسطى، لكن هذا الصراع انتهى وحُسم لصالح الدولة الحديثة في بريطانيا وأمريكا وأوروبا. فتشكلت الأنظمة والحكومات المستقلة.

يشكل العرب والمسلمون الغالبية الساحقة والحاكمة في المنطقة، ويتعايشون بصورة طبيعية ومعقولة مع الجماعات الدينية الأخرى داخل دولهم الحديثة.

ينتمون إلى وحدة قومية تعبر عن نوع "المواطنة" التي يحملون جنسيتها. هذه الدول، بالمطلق، لا تعتمد نظرية الخلافة أو الإمامة السياسية كأساس أو مرجعية لها. الدول العربية والإسلامية تدين بالإسلام، وتنتمي للتراث الإسلامي، وتعبّر عنه وتفتخر به وتحتضنه بأمانة وإخلاص، من دون الاضطرار إلى تحويل دور العبادة إلى ثكنات عسكرية، ورجال الدين إلى أمراء حرب وسياسة.

المجتمعات العربية والإسلامية تحتفظ بالدين في مكانه الطبيعي، كفضاء مفتوح للتجلي الروحي والزخم المعنوي والأخلاقي الذي يدفع المجتمعات نحو مزيد من التضامن والوئام والتعاون.

هذا الفضاء يساعد في تغليب الخير على الشر والفضائل على الرذائل، فيعم السلام والمحبة ويصبح العمل الصالح عقيدة تربوية ودينية واجتماعية وثقافية وسياسية متكاملة بين جميع مكونات المجتمع والدولة.

لن يتحقق هذا إلا بالعودة إلى قواعد وأصول شرعية واضحة وثابتة قابلة للقياس، مثل: قاعدة سد الذرائع، قاعدة لا ضرر ولا ضرار، قاعدة حفظ النظام العام، وقاعدة حفظ بيضة الإسلام. هذه القواعد لا تقبل التأويل الذي جاء به المتكلمون والفقهاء السياسيون.

بناءً على هذا الأساس، ينبغي أن نستعيد المبادرة الثقافية في فضاء الفكر الديني لتحصين الدين من الاستغلال السياسي، وفي الوقت ذاته حماية الدولة والمجتمع من الانحراف والشذوذ بسبب التضليل والتشويه الذي يفرضه المؤدلجون المستفيدون من التجارة بالدين في بازار الحروب والصراعات.

يمكن اختصار هذه المقاربة في المعادلة الآتية: ليحتفظ السنّة والشيعة بالبعد الديني للإمامة الإلهية والخلافة الإسلامية، ويتخلى الطرفان عن التفسير السياسي الضيق والمضطرب للخلافة والإمامة في الإسلام. بذلك، ينعم الطرفان بالحياة الدينية والروحية الصحية ويضمنان العيش المشترك وبناء الثقة والمستقبل المشترك، بالتعاون مع بقية الأديان والمذاهب والثقافات والشعوب من دون حساسية أو كراهية أو عداء.