أمضى الاحتلال البريطاني للعراق أربعة عقود (1917-1958) تصدى خلالها لمشروع بناء الدولة على مستويي الإدارة الحديثة والمالية وإصدار العملة العراقية، ومجموعة البنى الفوقية والقانونية والتشريعية والسياسية، واتجه المستوى الآخر نحو البنى التحتية في إنشاء الطرق والجسور وخطوط الماء والمجاري وسكك الحديد لغالبية مدن العراق، إضافة إلى بناء المستشفيات والتعليم وإنشاء الموانئ والمطارات واستكشاف النفط وتصنيعه وتصديره وغير ذلك، بل إنَّ العديد من تلك المنجزات ما زالت شاخصة إلى وقتنا الحاضر.
جاء الاحتلال الأميركي عام 2003 حاملاً وعود وأحلام الديمقراطية التي يشكو جفافها مناخ العراق السياسي منذ سقوط النظام الملكي، واستبدل تلك الوعود بنظام سياسي هجيني يحمل عناوين ديمقراطية، لكنه يقوم على تفريق الآصرة الوطنية على أسس مكوناتية تحمل معها أسباب احترابها، وتضع نيران خلافاتها تحت رماد فسادها المتخادم بين أحزابها وشخوصها التي أوكل لها الاحتلال تمثيل طوائفها وأعراقها بنحو شكلاني احتكاري زائف، سرعان ما فضحته الأحداث وأسقطته احتجاجات الجماهير العراقية من شمال الوطن إلى جنوبه.
كشف الاحتلال الأميركي عن عدم امتلاكه مشروعاً استراتيجياً في العراق، وبات الأمر متردداً بين الإدارتين (إدارة الحزب الجمهوري وكذلك إدارة الحزب الديمقراطي) ما بين الانسحاب أو البقاء في العراق! احتلال غير معني بالتحولات الكارثية التي أصابت العراق بوجود سلطة متشكلة من أحزاب وتشكيلات تتبع ولاءها الطائفي، وتنتمي لعمقها الإثني والقومي وتهمل كل ما يعني بالمواطنية العراقية وحقوقها ومشروع بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة؛ واقع سمح بامتدادات وتدخلات ناعمة وصريحة لدول جوار العراق، تحت أنظار السفارة الأميركية، وبرغبة الأحزاب الحاكمة التي وفرت بيئات مستقبلة حتى غدا التواجد العسكري والميليشياوي لدول الجوار صارخاً ومتحدياً للنظام السياسي الهش وطنياً، ما جعل دول الجوار تجد فرصتها التاريخية لتمارس النهش والتسليب الانتقامي من العراق الذي أرهبها طوال نصف قرن بقوة نظامه الدكتاتوري وسلاحه الفتاك واستعداده الدائم للحرب، مهما تعارضت الظروف، الأمر الذي ساهم بسرعة سقوطه المدوي عام 2003.
نستطيع القول إنَّ سياسة إيران في العراق نجحت أكثر من السياسة الأميركية، فالأميركي يتعامل مع القوي على الأرض، بينما الإيراني يصنع القوي على الأرض تحت أكثر من عنوان، تارة بولاءات طائفية عقائدية، وأخرى تحت غطاء اسلاموي، وثالثة في حسابات النفوذ والمواقع المهمة في العراق، حتى صارت المواقع الرئاسية والوزارية والأمنية بالدولة لا تمر دون ختم موافقة طهران التي زحفت حتى الخط الثاني والثالث من مواقع المسؤولية بالعراق.
تفوقت سياسة إيران على أميركا في العراق من خلال سعيها لإيجاد نظام سياسي هش وضعيف لـ"الدولة"، وإلى جواره تشكيلات عقائدية مدنية وميليشياوية تمثل أذرعاً عسكرية لها، ومابين الاثنين تشتغل آليات اللادولة لتتوازن أو تتفوق على الدولة، وبهذا تستحكم بمراكز السلطة الفعالة، المال والأمن والقضاء، مستفيدة من الصناعة السياسية الأميركية لنظام سياسي عراقي مغترب، وبلا حدود أو هوية مواطناتية عراقية، حتى بلغت الأمور أن يذهب مجلس النواب إلى تشريع قانون العطل الرسمية التي توزعت بين مناسبات دينية وطائفية وعرقية، بينما لا توجد بينها عطلة رسمية للعيد الوطني العراقي!؟
النظام القوي يكتسب طاقة استمراره من الشعب، وبالقدر الذي توفره له من حقوق وحريات ورفاهية عيش وخدمات، ويفقد طاقته على الاستمرار مع قسوة الواقع وتضخم المعيشة وتزايد الأزمات وسقوط الأقنعة الطائفية والعرقية، كيف يكون الحال ونحن نتحدث عن حكومة هشة فاسدة وضعيفة مراكز سلطتها تخضع لتبعيات طائفية واستقطابات دولية!؟ نعم انكشفت حقائق السلوك السياسي لأحزاب الفساد ونهب ثروات البلاد حتى أصبح العراق مثالا عالميا للتخلف والفساد القياسي بين الدول.
التعليقات