المشهد المعقد في غزة لا ينذر بوجود حل في الوقت القريب، في ظل تعنت حكومة الاحتلال الإسرائيلي، في المفاوضات التي جرت أكثر من مرة في القاهرة، وسعيها إلى تنفيذ مُخطط تدمير غزة بالكامل، وتهجير أصحاب الأرض، وإنهاء القضية الفلسطينية بهذا السيناريو.

وتسعى إسرائيل إلى تغيير التركيبة الديمغرافية بالأراضي المحتلة، من خلال التهجير القسري لمن احتلت أراضيهم، ونقل المستوطنين إليها، وهو أمر ممنوع بموجب معاهدة جنيف، بالإضافة إلى السعي إلى توسيع الاستيطان وضم الأراضي الفلسطينية، بهدف إطالة أمد الاحتلال، رغم وجود توافق دولي بشأن الحق في تقرير المصير للفلسطينيين، لكن إسرائيل تضع حدًا لكل الأنشطة التي تمنع حق تقرير الفلسطينيين لمصيرهم.

وتدرك العشائر الفلسطينية خطورة المشروع الإسرائيلي وتداعياته على الصف الوطني، وعلى الصف العائلي تحديدًا، فمعظم أبناء العائلات اليوم في كل التنظيمات، بما فيها فتح وحماس والجبهة الشعبية والجهاد، يدركون خطورة أن يصبحوا جزءًا من مشروع يكون أداة في يد أي جهة من أجل إشعال الصراع، وقد تم رفض أن تكون هذه التجمعات بديلاً عن أي نظام سياسي في قطاع غزة، مع التأكيد على أن الوحدة الوطنية هي الطريق الوحيد للحفاظ على كينونة الشعب الفلسطيني والوطن وصمود أهله وبسالة مقاومته.

وطبيعة التركيبة السكانية في قطاع غزة لا تعتمد على العائلات فقط، ومركز السلطة الذي تتمتع به هذه العشائر محدود وضعيف، ولا يمكنها إدارة مجتمع يضم نحو مليونين و300 ألف نسمة، ويخطط جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى تقسيم قطاع غزة إلى مناطق تحكمها العشائر، وتتولى مسؤولية توزيع المساعدات الإنسانية، لكن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، منذ اليوم الأول من عدوانه على القطاع، تدل على أنه لن يسمح بعودة حكم حماس، وبذلك يخضع القطاع بالكامل لإدارة الاحتلال.

وتؤكد كل المعلومات أن كل العشائر الفلسطينية رفضت "العرض الصهيوني"، وتعرف أن هذه العروض خبيثة وتهدف إلى تفريق الشمل الفلسطيني، واستعمال هذه العائلات في إطار خطة إسرائيلية خبيثة تهدف إلى تنفيذ برامج الاحتلال وتفريق صف الفلسطينيين، وحتى لو حدث أن البعض استجاب في لحظة من اللحظات، سواء بالضغط أو التهديد أو الإغراء أو غيره، فإنه سرعان ما تداركت هذه العائلات وأعربت عن رفضها الكامل لهذا الأسلوب أو أن تستعمل من قبل الاحتلال، لتكون أداة لطعن أهداف شعبنا وطموحه وطعن مقاومته في الظهر.

توسيع الهجوم على رفح، يمثل تحديًا خطيرًا للعمليات الإنسانية "المنهكة بالفعل"، التي تتطلب اتخاذ تدابير استثنائية لتقديم المساعدات الهزيلة، والتهديد بالتهجير القسري يحمل صدى خاصًا بالنسبة إلى الفلسطينيين، فهو محفور في الوعي الجمعي الفلسطيني من خلال "النكبة" التي حدثت عام 1948، عندما أُجبر ملايين الفلسطينيين على ترك منازلهم، وعمليات الإجلاء القسري التي لا تستوفي الشروط اللازمة قانونيًا، وهو بمثابة جريمة حرب، لذلك من الضروري معالجة الأسباب الجذرية الكامنة وراءها من أجل التوصل إلى حل دائم لهذه الأزمة.

وستتحدد حسابات حماس وفقًا للمتغيرات المرتبطة بطبيعة قدراتها، والتي ستجعل استراتيجيتها مرتكزة على ورقة الأسرى الإسرائيليين، وعامل الضغط الدولي والإقليمي، من خلال سعيها إلى إضعاف الاستراتيجية الإسرائيلية لفرض الضغط عبر الداخل الفلسطيني، وتستهدف التخفيف من وطأة الانتقادات الداخلية للحركة بين المواطنين الفلسطينيين، وخاصة مواطني الشمال وإضعاف تأثير الاستراتيجية الإسرائيلية بتقويض الحركة عبر ضغوط الداخل، تحت وطأة سياسات العقاب الجماعي التي اتبعتها داخل القطاع، وهو ما قد يدفع الحركة للاستسلام بحسب التقدير الإسرائيلي.

واتجهت حماس خلال الفترة الماضية، وأثناء عمليات التفاوض، نحو تأمين بقائها بمدينة رفح، ومنع مخططات الاجتياح الواسع للمدينة، التي هددت بها إسرائيل طيلة الفترة الماضية، وحرصت تل أبيب على أن يكون ضمن بنود الاتفاق المزمع إبرامه، السماح بعودة سكان الشمال، بالإضافة إلى سحب قواتها من ما يسمى بـ "ممر نتساريم" في وسط غزة، فضلاً عن إبداء المرونة بشأن عودة السكان دون المرور بنقاط التفتيش التي كان من شأنها أن تقوض عودة الشباب في سن التجنيد، حيث كانت اشترطت من قبل عودة النساء والأطفال وكبار السن فقط.

وبالتالي من شأن هذه المرونة في الموقف الإسرائيلي – التي قد تراها حماس متعمدة – أن تمهد الطريق لعملية الاجتياح البري على نطاق واسع لمدينة رفح في المرحلة اللاحقة لاتفاق الهدنة المؤقت، لتفكيك ما تبقى من الحركة وترسانتها العسكرية، خاصة أنَّ استيعاب هذه الأعداد الضخمة في مناطق الشمال سيذلل الصعاب التي واجهتها في توفير مناطق آمنة للسكان الفلسطينيين لمراعاة التخوفات والاعتبارات الأمريكية والإقليمية، التي أبدتها بشأن تنفيذ العملية العسكرية في رفح.

عكست حماس خلال الأيام الماضية، بعض التحركات غير الاعتيادية فيما يتعلق برؤيتها لليوم التالي للحكم في قطاع غزة، في مسعى منها، على ما يبدو، لضمان بقاءها العضوي في أيّ معادلات سياسية يتم ترتيبها بشأن حكم القطاع فيما بعد الحرب، وانعكس ذلك في تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في أعقاب اجتماعه مع رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية، في 18 نيسان (أبريل) الفائت، بأن حماس مستعدة لحل جناحها العسكري بمجرد إنشاء دولة فلسطينية على حدود عام 1967، وأن تستمر كحزب سياسي، وهو ما يبدو أن الحركة ستكون حريصة لضمان تحققه في أية اتفاقات تهدئة دائمة قادمة.

وقد يفسر هذا الدافع تحرك الحركة العسكري باستهداف التركزات العسكرية الإسرائيلية عند معبر كرم أبو سالم، وكذلك الرعاة الدوليين بتأكيد حضورها العضوي العسكري في القطاع، لأخذ ذلك في الاعتبار في أي مفاوضات ومعادلات تهدئة داخل القطاع، وهو ما ثبت خطأ تقديره، حيث أن هذا التحرك كانت له تداعياته السلبية على مسار المفاوضات ووفر لتل أبيب مبرر البدء الجزئي في اجتياحها لمدينة رفح.

ويبدو أن حسابات حماس، دائمًا يجانبها الصواب، ويواصل شعب غزة دفع الثمن الباهظ من أرواحهم ومنازلهم، حتى أصبحوا بلا مأوى، فما يحدث في غزة، ونزوح قرابة 800 ألف فلسطيني، يعد بمثابة النكبة الثانية، بعد الإجرام الإسرائيلي المتواصل، وحروب الإبادة والمجازر الدموية والاغتيالات في الضفة الغربية، وجنين ونابلس، وعربدة المستوطنين في القدس والمسجد الأقصى، وتقسيم الضفة الغربية إلى مجمعات للمتسوطنات الصهونية.

يتجلى المشهد في غزة بصورة "النكبة الثانية" للفلسطيني المطارد بالإبادة، والتهجير، وترك البيوت والانتقال من شمال غزة إلى جنوبها في طريق ملغوم بالموت والفاشية، يتشتت فيه الناس وتصبح العائلة الواحدة أجزاء متفرقة بين عدة أماكن، ويصبح الفرد كذلك مشتتًا بين الأرض والزمن والقلق؛ فإلى أين يذهب في هذه الأيام التي تحمل النكبة لغزة؟