للفساد وجوهٌ عدّة، قبيحة المنظر كريهة الرائحة، تلبس مختلف الأقنعة. وفساد العلم والنخب العلمية، والتعليم المفقر والفاسد أحد هذه الوجوه. وقديما قيل: إن العلماء ملح البلد، وإن العلم قوت الروح، وإن العلماء ورثة الأنبياء في العلم والعمل. هم الذين يُصلحون ما أفسده الناس، هم المصلحون الذين يقودون العبادَ والبلادَ إلى بر السلامة والأمان.

هكذا علَّمونا في الحياة منذ الصغَر، وعلَّمنا معلم التربية الوطنية، والكتب السماوية، والسياسة الملغومة بالأناشيد والخطب الرنانة. قالوا لنا: رجل العلم قدوتنا، وهو ظل نبي على الأرض؛ لأن علمه من علم الأنبياء. فلا تخافوا منه لأنه الوحيد الذي لا يُفسِد؛ بل يحارب الفساد، لأنه ملح الحياة.

كبرنا، فاكتشفنا أن هناك زمنًا غير زماننا، وعلمًا يختلف عن علمنا، وعقولاً يلبسها جن الفساد، وعلماءَ يلهثون وراء المكاسب الشخصية والامتيازات الكبيرة؛ وعّاظَ سلاطين يتصاغرون أمام جاه السلطة والمال مقابلَ فتاتٍ من الهبات، ويُجهدون أنفسهم في نيل مرضاتهم؛ ليصبحوا أتباع السلاطين والشياطين.

مسلسل مترو الأنفاق المظلمة لا ينتهي في بلادنا، فهو وجعٌ متوطن بنفوسنا وأرضنا، وصراع مُهلك يستهلك مفردات الحياة، ويُحيلها إلى خراب" فلا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه". وكلما طرقت بابًا وجدت عجبًا عجابًا، يغلق أبواب الأمل في النفوس .

ربما يمكن فهم غرائب السياسة وفسادها، و"جولات تراخيص" البلوكرات والفاشينستات، وطوفان الجهل والغيبيات في المجتمع -لأنها معروفة الأصل والنسب-؛ لكننا بمقياس المنطق والرياضيات، نجد صعوبةً في فهم مساهمة أهل العلم في تخريب المجتمع بفساد مقوماته : تدمير هويته، وتغيير قوانينه، وتشويه جمالية ثقافته، وتعطيل قيَمِه الراقية.

وإذا طرقت بابَ الجامعات، سترى علماً فاسدًا يغرق في أوحال الجهالة، وحروفاً بليدة، ومناهجَ هزيلة. ستجد كلَّ شيء فيها، إلا العلم لا يرفرف علَمُه عاليًا؛ حيث يغطُّ في نومٍ عميق، وهو فعلٌ مضارع مبنيٌّ للمجهول، ومعتل المضمون، ليس له رائحة ولا طعم ولا يحزنون. وستقرأ على أبواب الجامعات ملصقاتٍ كُتب عليها: العلم نور؛ لكنك ستجد فيها نورًا ضئيلًا من بين غيومٍ سوداءَ لا تُمطر ماءً، ولا تسمع لها رعدًا!

لا يستقيم الأمر عقلًا ولا منطقًا أن تقع النخب الجامعية، ومنتحلو صفات الخبراء والباحثين والعلماء في مستنقع الفساد والنفاق؛ لأن " فساد الزمان لا سبب له إلا فساد العلماء" كما يقول الكواكبي، فهيهات هيهات (مَن يُصلح الملحَ إذا الملحُ فسد؟!). وأخطر ما نراه اليوم هو تكاثر علماء السوء، وعلماء زمرة الفساد.

لا تجد في جامعات اليوم فرقًا جوهريًّا بين المعلم وتلميذ العلم إلا ببعض نوادر العلم ومفرقعاتها؛ يقرأ بالتهجِّي ما تيسَّر من المذكرات والكتب. وينشد حروف الجر والمجرور بالنصب والتمويه. الكثير منهم لا يقرأ رواية عابرة، ولا كتابًا معرفيًّا. ومع ذلك يتندَّر على تلميذه لأنه لا يعرف السيّاب أو الجواهريّ، وهو نفسه لم يقرأ لهم بيتًا واحدًا! -حتى ولو من باب الخطأ-.

جامعات فيها كبار العقول؛ لكنهم في غرف تحت الإقامة الجبرية، لا يُستشارون ولا يستشيرون في العلم والإدارة، والكثير منهم تقاعد إجباريًّا لحفظ ماء الوجه، والتخلّص من مشاهد التفاهات؛ حيث التلميذ عميدٌ عليه بالمحاصصة الحزبية، ومالك الجامعة بارعٌ في سرقة المال الحرام؛ لذلك ترك الكثير من الزملاء الكبار جامعاتهم؛ لأنه (يتدخل في الصغيرة والكبيرة، ويتستَّر على الغيابات)، مثلما حدث مؤخرًا للكثير من الزملاء الذين قدَّموا استقالتَهم، وغادروا جامعاتهم بشجاعةٍ واحترام.

ومثلما يُوجد كبارُ العلماء في الجامعات، هناك صغارُ علم، أفسدوا الحياة الجامعية بالفساد العفِن. لدينا لصوصٌ بدرجة (دكتوراه)، ولصوص (كتب وبحوث سكوبس)، وفضائح تزوير ورشاوى مسكوتٌ عنها -عمدًا أو غباءً-. أحدهم ألَّف أربعة كتب خلال أشهر، ويتجول في معارض الكتب مزهوًّا، وتبيَّن بالصدفة أنه من صُنع مكتب معروف شبيه بمستشفى الولادة!، لكنه بالتلقيح الصناعي يُخصّب الكتبَ والبحوثَ ببويضات مستعارة!!!

هناك (سكوبس) اللعين الذي نشر الفساد في الجامعات، والقادم من وراء الحدود؛ لينشر فساد العلم من أبٍ مجهولِ الهوية، ويلوثَ البيئةَ بالمفاسد، ليجدَ بيئةً حاضنةً له لتفعيل فسادٍ آخر مُستجد، خاصة بعد متطلبات الترقيات العلمية الفاسدة بالإخوانيات والرشاوى. ضع اسمَك من بين الأسماء على البحوث المختارة لقاءَ المال؛ لتصبح باحثاً من قبيلة (سكوبس) العالمية. احتفظ شخصياً بعشرات الأسماء بالوثائق، وهي مؤجلة للنشر لفتحها في ملفٍ حول الجامعات قريباً.

أغرب النكات وأعجبها، أن الكثير من رواد مكاتب السكوبس والكتب المهدرجة والرسائل العلمية، يفتخرون بإنجازاتهم على التواصل الاجتماعي؛ لكسب عشرات اللايكات، وهي تذكرنا بقصة (الإمبراطور العاري) المولَع بالثياب الجميلة الذي خدعه حائكُ ملابسه ومساعديه، بأنه يلبس أجملَ الملابس؛ فسار في الموكب بين شعبه عاريًا، مصدقًا نفسَه ونفاقَ الجميع!

والفساد في الجامعة كثير: من إدارة توزع المناصب بطريقة " المكرمة" العراقية بعيدًا عن التخصص والجدارة العلمية واللقب العلمي، ومن تدريسي يسمح لطلبته بالغش بالعلن والسر، ويتسامح في قانون الغيابات والدرجات، ويقبل بالمقسوم من الرشاوى، ويبتز الطالبات بفساد الأخلاق.

هناك أيضاً فوضى التدريس والتلقين، وملء الفراغات بتخصصات لا علاقة لها بالمادة العلمية، وأقسام علمية تفتح وجاهةً أو تجارةً بلا هدف. تلصيقٌ وتنقيحٌ خارج حدود التخصص. أحدهم يقوم بتدريس التحرير الصحفي؛ وهو لم يمارس العملَ الصحفي في الميدان. ولم تعرفه الصحافة كاتبًا ولا محررًا للحروف.

تزويرٌ وتضخيمٌ في السيَر العلمية، يمر مرور الكرام على إدارة الجامعات سهوًا أو عمدًا، ليصبح قياديًّا فيها ينشر فساد العلم. أعرف الكثير منهم؛ لو تقرأ سيرهم العلمية الذي يقدمونها للجامعات، لوجدت فيها من الكذب والتضليل الكثير! فهم لم يصبحوا يومًا عمداء، ولم ينشروا بحوثًا أصيلة، ولم يكتبوا خبرًا صحفيًّا في حياتهم، ولم يؤلفوا كتابًا علميًّا رصينًا، وليسوا معروفين على مستوى التخصص والمهنة؛ بل عُرفوا بفضائح السرقات العلمية، وأبرزها رسائلهم العلمية!

فساد العلم، هو الظاهرة الأم، الأكبر والأشمل، هو انحطاطٌ للتربية والقيم، وتشويهٌ للجمال، وقتل للحقيقة، وإبادةٌ للأسرة والمجتمع. وعندما تُصاب الجامعة، ويفسد كادرُها العلمي بمرض الفساد تنتهي هوية الأمة، وثقافتها، ويصبح المستقبل مجهولاً.

فيا أيها الفساد العلمي إنك تقتل يقظتنا!!!